ليس من مهمات المؤسسات الحكومية أو الأهلية إنتاج الإبداع أو صناعة العمل الإبداعي. تلك هي المهمة الحصرية للمبدع من حيث إنه الشخص الوحيد الذي ينبغي عليه أن ينتج الفعل الإبداعي في سياقات تتحقق له فيها عناصر الحرية كاملة دون توجيه أو تأثير أو رقابة. العناصر المكملة للفعل الإبداعي -سواء أكانت حكومية أو مؤسسية أهلية- يفترض فيها أن تكون مجرد أدوات تسهيل، من قبيل توفير المساحات والفضاءات التي تمكن المبدع من تقديم عمله أو ممارسة فنه أو كتابته وإيصالها إلى المتلقين؛ توفير التمويل الشفاف غير المشروط من موازنة الدولة أو من مصادر أهلية على أن تقوم عليه مؤسسات مستقلة قراراتها تحتكم للسوية الإبداعية، معلنة وخاضعة للمساءلة، ولا مكان فيها للمحاباة والشللية والمناطقية ولا مكان فيها لصياغة مسارات الفعل الإبداعي نفسه وتوجهاته؛ الدفاع عن حرية الفعل الإبداعي في وجه أي عوامل تكبله أو تضيق عليه؛ وغيرها من العوامل التي توفر المناخات الصحية لنمو وتطور الفعل الإبداعي. طبعاً، الواقع مغاير للنموذج المذكور أعلاه، فالمبدع في العالم العربي هو الطرف الأضعف: فمع استثناءات قليلة، لا تدر العملية الإبداعية دخلاً على منتجها، بل تستدعي دائماً أن يبحث لها عن جهة تصرف عليها وترعاها وتروج لها، ويأخذ هذا شكلين: المؤسسات ذات الطابع الحكومي والتي غالباً ما تغلب عليها البيروقراطية والمحاباة والشللية، وتروج لـ(ثقافة) سطحية لا خلاف عليها ومقبولة من الجميع وتراعي الأعراف والتقاليد، أو هي مطلوبة لغايات محددة مثل (الثقافة) التي تصنع الهويات الوطنية أو عناصرها المختلفة، وهذان النوعان هما ثقافة ضد الثقافة، من حيث إن الثقافة والإبداع تستدعيان استثارة التفكير والأسئلة والنقد بقدر ما تستدعيان أفقاً منفتحاً يتجاوز الهويات الضيقة والشوفينيات المختلفة. ومن جهة ثانية المؤسسات الأهلية أو شبه الأهلية التي تحاول أن تجترح مساحة خارج مساحات الحكومات لكنها (وبحكم بحثها عن مصادر التمويل الحكومي أو الأجنبي) تقع فريسة لبيروقراطيات من نوع آخر، وكذلك الأمر فيما يتعلق بنوع (الثقافة) التي يرعاها مصدر التمويل بدوره والتي غالباً ما تكون مدفوعة باستشراقية كامنة أو فاضحة، ومطعمة بمفاهيم مسبقة تشبه سطحية نظيرتها الحكومية سابقة الذكر في تعميماتها المبتذلة أحادية الاتجاه عن (الديمقراطية) و(حقوق الإنسان) و(حقوق المرأة) وغيرها من المفاهيم المُسلعة الجاهزة للتصدير باتجاه واحد من الشمال إلى الجنوب. المؤسسية بالمجمل تفقد المبدع استقلاليته الهشة، وتولد عنده تبعية تتجلى بشكليها المباشر أو غير مباشر. التبعية المباشرة واضحة، أما غير المباشرة فسأطرح لها مثالاً: عندما تطرح جهة ممولة ما أنها تريد تمويل أفلام عن قضية ما، فهي أولاً تفرض الموضوع والثيمة، وبالتالي تضع قيداً على المبدع الباحث عن التمويل له علاقة بموضوع عمله الإبداعي الذي يفترض ابتداء أن يكون من اختياره الحر لا موجهاً؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذه المقاربة تحدد شكل العمل الإبداعي نفسه، والمثال الذي قدمته (الوسائط السمعية البصرية) ليس عشوائياً، فتمويل المشاريع الإبداعية هذه الأيام ينصب بشكل أكبر على هذه الوسائط بحيث صرنا نجد رحيلاً جماعياً نحوها. مثال آخر هو جائزة البوكر العربية: فرغم أن هذه الجائزة تعد من أنزه الجوائز في العالم العربي، إلا أنها -وبسبب المبلغ المالي المخصص لمن يصعد إلى قائمتها القصيرة ومن يفوز بها، وبسبب النجومية والاهتمام الإعلامي والترجمة المصاحبة لمراحل الجائزة المختلفة- شجعت على رحيل الكثيرين من الكتاب (وغير الكتاب) إلى الجنس الأدبي الوحيد الذي تحتفي به هذه الجائزة وهو الرواية، ربما بتأثير من صناعة النشر (الغربية أساساً ومن ثم العربية) التي اكتشفت إمكانيات الرواية (دون غيرها من الأجناس الأدبية مثل القصة والشعر) في التحول إلى سلعة في (سوق) الأدب لعدة عوامل لا مجال لتفصيلها في هذه المقالة. لهذا تترجم اسم الجائزة من الإنجليزية: International Prize for Arabic Fiction إلى: الجائزة العالمية للرواية العربية، دون الالتفات (المقصود على ما يبدو) إلى أن عبارة fiction الإنجليزية تعني (السرد التخيلي)، وتشمل الرواية والقصة لا الرواية فقط، ودون الالتفات إلى أن الجائزة العالمية للبوكر تُداري هذا الخلل من خلال إعطاء الجوائز للقاصين أيضاً: ففازت بها القاصة الكندية -الحائزة على نوبل الآداب لاحقاً- أليس مونرو عام 2009، وفازت بها القاصة الأمريكية ليديا ديفيز العام الماضي. لا زلنا نفتقد في العالم العربي إلى أطر مثل (مؤسسة جوجنهايم) التي تعطي منح زمالة سنوية للمبدعين ليصرفوها (كما يريدون)، لتتحقق لهم (مساحات زمنية يستطيعون العمل خلالها بكامل الحرية الإبداعية) دون قيد أو شرط، أو إلى تجربة تشبه اليانصيب في بريطانيا، والذي يضخ أموالاً بالملايين من أجل دعم الثقافة والفنون في سياقات الحرفية والحرية. وإلى أن يتحقق الحلم المتعلق بنشوء إدارات ثقافية في العالم العربي تسهل الإبداع ولا تتحكم به، تفتح آفاق الحرية ولا تصادرها أو تتحكم بها، سيظل المبدع والفعل الإبداعي رهين مؤسسات حكومية أو أهلية تتراوح فيها حدود الحركة بين التقييد والتوظيف، وبين الإيحاء والتوجيه.