×
محافظة جازان

استشهاد 12 عسكرياً سعودياً خلال 10 أيام على الحدود مع اليمن - خارجيات

صورة الخبر

< ما إن نبدأ الحوار حتى نقوم بتسليط ذواتنا (خبراتنا.. مقولاتنا.. قناعاتنا.. إلخ) على الآخر، أي نقوم بتقويض الحوار ذاته. من المجدي لكل حوار إبداعي، وكتاب إبداعي أيضاً، أن نحبط خططنا و«نخيب توقعاتنا»، شريطة أن نضمن لأفكارنا قدراً كبيراً أو عميقاً من الصدق، ونترك فراغات بيضاء من الصمت أو «الانشداه» بين الكلمات. ليكن هذا بمثابة تعاقد ضمني أو صريح بيننا وبين الحياة. لا أستطيع الجزم بما إذا كانت مشكلة الإنسان تنحصر - فعلاً - في الكلام أم في الصمت، أم فيهما معاً؟ لكن ما أستطيع فهمه هو أنها مشكلة في منشئها وجوهرها مشكلة لغوية، مشكلة في اللغة وباللغة، مشكلة تمس كينونة اللغة، ذاكرتها التاريخية وتمثلاتها الراهنة، تتأثر وترتبط بالعلاقة الجدلية بين طبيعة لسانها وكلامها، على حد تعبير دوسوسير، أو بين قدرتها وكفايتها، بتعبير تشومسكي. ما إن تُصكّ المفاهيم والكلمات حتى تصبح لها سلطة، حدود: «دلالة، قواعد، أعراف»، أنصار ومناوئون يماثلون ما لديها من دلالات في وعي المتحدثين بها ولا وعيهم، تتفق أو تختلف، تفوق أو تقصر عن الدلالات الاجتماعية الأولى لحاجتها، مفاهيم مثل: الوحدة - الانفصال، ماذا لو جرى تحييد دلالالتها أو تذويبها أو تمييعها، ولا أقول: تشويهها؟ ماذا لو جرى فك ارتباطاتها المنفعية أو إنهاء عقدها الاجتماعي وإلغاء شروطها التاريخية؟ بمعنى آخر: ما الذي سيتبقى من معنى أو دلالة لعبارات مثل: «الوحدة أو الموت» أو «الانفصال هو الحل» في مجتمع يسود فيه القانون ويتمتع جميع أفراده بحقوق المواطنة المتساوية؟ الموت غامض، ليس لأننا لا نعرف مصير صاحبه فحسب، بل لأنه موجة لفظتها أحشاؤنا، وحياة لم تحتملها حياتنا. ما من مشكلة لا يمكن حلها، لكن ليست هناك حلول صالحة لحل كل المشكلات. لا أعرف جيداً، كأشياء كثيرة في حياتي (نا)، ربما من الخير أن تبقى كذلك. على الأقل حتى نضمن استمرار حوارنا مع العالم ونبرّر بقاءنا فيه. «بين أوراقه المبعثرة وجد قميصه الجديد». «بجوار المدفع الأثري كان يصلي.. بائع الذرة». في كل إجاباتنا الخاطئة توجد دائماً إجابات صحيحة، تلك الإجابات الخاطئة التي لم نقم بتصويبها. هل نحتاج إلى كل هذا الوقت من التشرّد والاغتراب والحروب على الأرض حتى نتعلّم من أخطائنا؟ حين يقود السائق الفقير دراجته بثقة نظنه مغروراً، وحين يطرح الطالب على معلمه أسئلة مختلفة نظنه وقحاً، حين يمسك المثقف سبحة أو يصلي نظنه رجعياً، وحين يقبّل الشاعر الوردة ويناديها: حبيبتي نظنه مجنوناً، بهذه الطريقة من عدم القبول بالآخر وقمع المختلف كنّا نعمل على تجفيف ينابيع الإبداع في حياتنا ونفقد أسباب قوتنا ووجودنا، أفراداً ومجتمعات، وشعوباً ودولاً. الغياب شبه التام للإنسان (الفرد)، في لغة وأدبيات وخطابات الثورات والحركات التغييرية، ليس انعكاساً لغيابه في الواقع وعدم الاعتراف به فحسب، بل مؤشر مهم وواضح لاتجاه تلك الثورات والحركات، وما يمكن أن تؤول إليه من أحداث وأوضاع ونظم اجتماعية وتاريخية عموماً. صحيح أن الجماعة - غالباً ما تلغي الفرد، ويضطر الفرد معها أن يلوذ بالهامش، خصوصاً حين تنساق الجماعة (القوة المهيمنة) لنزعتها الشمولية وتقوم بتدبير شؤونها بمنأى عن رغبات الفرد وتطلعاته وهمومه، حين لا تبني الجماعة ثقافتها وعلاقاتها على أسس ديموقراطية واضحة تحول دون تحوّلها إلى «دوغما» أو سلطة قامعة للفرد، وصحيح أن الجماعة شكل، إلاّ أن هذا الشكل في مرحلة تاريخية معينة لا يكون معزولاً عن مضمونه، إذ يكتسب صفة المضمون أو وظيفته ويتحد به. ما الذي يجعل من موقع ما داخل السلطة أو خارجها هو الموقع الأفضل؟ يتطابق تاريخ الفرد والجماعة، وتتضاءل الفروق بينهما، ولا نعود قادرين على التمييز بين فرد يستعبد جماعة وجماعة تستعبد فرداً، في هذه المساحة الضيقة جداً من العنف والنبذ المتبادل، ينتصر ديالكتيك الانحطاط الإنساني، وتصدق كذبة سارتر: «الآخر هو الجحيم». الآخر هو الأنا متكلّماً، اللغة ليست سوى آخر يتحدّث لآخر عن آخر، آخر يقيم في آخر. يتساقط رذاذ اللغة من هنا وهناك كصور حلمية غير متوقعة لا نملك التحكّم بها. عادةً يأتي هذا الرذاذ مدججاً برائحة الأمكنة وهوياتها المتسلطة؛ يضحك ليسمع الآخر، ينتحب كذلك. يصبح الآخر قيداً على المشاعر، ورويداً رويداً تصاب حواسنا بالعمى، وفي هذا يكمن جذر الكوميديا البشرية ومأسويتها، في هذا الضحك الأسود والتحذلق المقنع بالتفلسف: الأجواء المصطنعة من النفايات البشرية وسمومها المهذبة. العزلة ليست حلاً ناجعاً - على الدوام - لمن اعتادوا التسامح؛ الباحثين عن آخرهم الأصيل. يصمت حين يطلب منه الكلام، ويتكلّم حين لا يصغي أحد؛ أن نطلّ على العالم من أسفل، أن نرى وعيوننا مغمضة، ذلك الانقلاب الضروري لاتزان خطواتنا. محظوظون أم مغبونون أولئك الذين توقف نموهم العقلي والأخلاقي عند مستوى عقل وأخلاق عصرهم؟ أولئك «المتوافقون» (المتفوقون) المتطابقون. ماذا لو كان العالم يسير في اتجاه دائري؟ لو كان عوداً أبدياً، لو كان العالم يتقدم نحو بداياته، ذاهباً في استعادة طفولته، حيث لا تمييز ولا حدود، حيث الغبار الكوني والانفجار السديمي الأول، حيث الإرادة مجرّدة من «الأنوات» المتصادمة، في الدرجة صفر من اللغة؟ «طوبى للغرباء»! لا يحتاج الغياب إلى من يرفعه، الغياب ارتفاع وسمو دائم، يعانق النهر مجراه، والزهرة المنسية على شق الجدار. كم حضور خسرنا حين فقدنا القدرة على الغياب! معرفة الحق لدى الآخر تعتمد على قدرتي على التخلّص من الباطل لدي، هذا لا يعني - بالضرورة - أن الآخر دائماً على صواب، أو أن الآخر يعيش في الخارج. كل من لا يرى الحق إلاّ منتصراً لا يعوّل عليه، لأنه يرى الحق تابعاً للقوة وليس العكس. ثمة حقٌّ يراد به باطل، وثمة أشياء كثيرة خارج النص: التساؤلات الموجهة والناظمة والمقوّمة والمؤصلة لفهمه: «لماذا؟ من؟ كيف؟ ماذا؟»؛ مقدمات ونتائج وأنساق معلنة ومضمرة، وسياقات تاريخية حاضنة من دون الإلمام والإحاطة بها، يصبح من الصعب أو المستحيل الحديث عن النص، فضلاً عن فهمه! دائماً تؤدي المقدمات والفروض الخاطئة إلى فهوم ونتائج خاطئة. يستطيع المثقف العربي من الآن، أي منذ ما بات يعرف بثورة «الربيع الـ...» الكلام عن الاستبداد السياسي والديني إلى حد ما، لكنه عاجز تماماً عن الكلام عن الاستبداد الثقافي والفكري والتعليمي، عاجز عن مواجهة ذاته، عن التخلي عن امتيازاته السلطوية، عن قطع صلته بشبكة العلاقات المنفعية، عن فقد وظيفته النسقية المباشرة والمضمرة بالطاغوت وأدواته القمعية. وهذا ضرب من النفاق والمكر الثقافي والانتهازية اللا أخلاقية. يظن بعض المثقفين الحربائيين أن المواقف الثقافية والإنسانية تجاه ما يجري في الواقع ليست أكثر من دور مسرحي استعراضي هزيل يؤديه أمام جمهور معوق، بعقد شراكة ضمني وسيناريو مُعد سلفاً. من السهولة تبديل المواقف.. تبديل المواقع. المسألة لا تحتاج إلى أكثر من حذلقة لغوية وبعض تصريحات عامة مطعّمة بمصطلحات تنتمي إلى جهة ثقافة «الموقع». هناك أشباه مثقفين، مهرجون وسماسرة، انحصرت مهماتهم الثقافية في الترويج والتسويق للظواهر الثقافية الزائفة ورموزها المهيمنة، باعتبار التخلف والاستبداد وجهين لعملة واحدة. أعرف مثقفين كانوا يضعون سقفاً عالياً لشروط المثقف والشاعر تساقطوا وارتموا في أحضان الاستبداد، وصاروا يتباهون بتأشيرات عبورهم السلطوي وقدرتهم العجائبية على إدارة الصفقات وتدبير المكائد وتدبيج المدائح السلطوية. لا يبدو أن قمع وتهميش وظلم الأنظمة السياسية المستبدة والتضليل والعمى والفوضى المفاهيمية والمعلوماتية، التي تنتجها مؤسساتها الثقافية والإعلامية والدينية، وحدها المسؤولة عن فقد المثقف دوره أو تراجعه أو انحرافه، هناك عنف في الداخل، عنف اختياري، لا انتماء وفصام ومازوشية ينتجها المثقف نفسه، لا تقل خطراً وحقارة عن نظائرها الوافدة من الخارج، إن لم تتفوق عليها. حين تقودنا مظلوميتنا أو معاناتنا الشخصية إلى ظلم الآخرين، أي إلى إعادة إنتاج العنف نفقد - عندئذ - كرامتنا والينبوع السري الذي يمدنا بالأمل والفرح ويعطي حياتنا قيمة ومعنى، كما نفقد أغلى وأقوى ما نملك، وهو قدرتنا على التعاطف والحب. أجل.. لقد حرمنا الطاغوت من أبسط حقوقنا الإنسانية والاجتماعية والوظيفية، ولكنّا لم ولن نجعل من عدم حصولنا على ما لا نملك سبباً ومبرّراً لتخلينا عمّا نملك. الكرامة ثمرة لا تخون بذرتها، توق دائم للانعتاق والحرية، لا يتحقق ويكتمل إلاّ في حضور الآخر؛ تأبى الحرية إلاّ أن تكون مشاعاً أو لا تكون. كلّما زاد شقاؤه واشتدت معاناته زادت رغباته وحاجاته إلى المتعة، هكذا كان يربي وعيه ولا وعيه على التطرّف. إننا لا نعرف ما يحدث وهذا بالضبط ما يحدث، والسبب لا يعود هنا إلى تعقد الوعي بالظاهرة وسرعة تحولاتها فقط، ولكن إلى عنفوانها الفعلي القابل للترميز. الإنسان أبسط من أن تحلّ مشكلته على الورق أو في كلمات، ولذا تبدو مشكلته صعبة ومعقّدة. نحتاج إلى مسافة.. انزياح «زمكاني» كي نتمكن من معرفة ذواتنا أو العودة إليها، نحتاج إلى اغتراب إبداعي ينفي غربتنا، نحتاج إلى نفي النفي حتى نتخلّص من ضغوط التاريخ وحمولاته الصراعية؛ تخليص النهر مما علق به. غياب الثقافة الشعرية وإدراك تحولاتها المعاصرة لدى طائفة كبيرة من الشعراء يجعلانهم يقعون في فخ استنساخ الكتابات الشعرية السابقة، وإعادة إنتاج أنساقها اللغوية وأنظمتها المجازية. هذا لا يعني بالضرورة أن الكتابة الشعرية تسير وفق مراحل تطورية خطّية قطيعية ونظم آلية صارمة، بدليل تداخل الأجناس الواضح في الكتابات الشعرية الإبداعية المعاصرة، وصعوبة تقنين المفهوم الشعري وتقعيده، والتّناصات الشعرية التي تمتلئ بها تلك الكتابات. كأن المفاهيم والأشياء لا تحيا إلاّ بأضدادها، ولا تقتات إلاّ على المختلف، للوجود معنى لا يقوم إلاّ على السلب والنقض: نسمي الأشياء خشية فقدانها، الفقد لسان الوجود، نصمت كي لا نفقد القدرة على الكلام، ننتظر كي لا نفقد الإحساس بالزمن: مهما قيل عن الآخر فلن تخرج أفعال الإنسان عن فرديته، ما من دليل واحد يكشف عن اغترابه غيرها. لطالما كان مفخّخاً ومموهاً ومليئاً بالحفر، طريق الإنسان لنكران ذاته. «حين التفت إلى الخلف/ لم يعثر على ظلّه/ حاول أن يشرح لواعجه/ كان أصدقاؤه عالقين بذيل السمكة/ أراد أن يحلّ قميصه/ تجمّدت يداه على النبع».     * شاعر وكاتب من اليمن.