ما إن تبدأ في قراءة السطور الأولى لرواية الكاتبة المصرية انتصار عبدالمنعم «جامعة المشير... مئة عام من الفوضى»، حتى تصطدم برؤية كابوسية تعاند حركة التاريخ، وآمال الناس، وأحلام الثوار، وأماني من ضحّوا بأرواحهم في ساحات الاحتجاج، وتتساوق مع ما ينشر عن مؤامرة غربية لتقسيم مصر إلى ثلاث دويلات: بلاد النوبة في الجنوب، وأخرى للمسيحيين سمّتها المؤلفة «قبطستان» ودويلة ثالثة تتمثّل فيها الفجيعة الكبرى حين تندمج مصر وإسرائيل، فتحل «نجمة داود» محل النسر في علم مصر الحالي بألوانه الثلاثة، لتصير هي راية تلك الدويلة المتخيلة. وأحسب أن رواية انتصار عبدالمنعم، تتقاطع أحياناً مع رواية جورج أورويل «1984» التي تنبأ فيها بسيطرة قوة كبيرة على العالم تتقاسم مساحته، وتحول البشر إلى مجرد أرقام في «جمهورية الأخ الكبير» الشمولية. لكنّ «جامعة المشير» تبدو من «التنبوءات الهازمة لذاتها»، وإلا عدت تعبيراً عميقاً عن قنوط شديد حيال مستقبل الثورة والدولة معاً، لا سيما أنّ الكاتبة انتهت من تأليفها في تشرين الأول (أكتوبر) 2012، حين كان «الإخوان» قد قبضوا على زمام السلطة في مصر، وحولوا الثورة التي خانوها، إلى مجرد أداة لتحقيق مشروعهم الخاص، بعيداً مما طالب به الشعب المصري وكافح من أجله. يقوم معمار الرواية على عمودين، كل منهما يحمل لحظة زمنية في مقابل أخرى. الأولى وقت انطلاق ثورة يناير وأيام موجتها الأولى، وما حفلت به من تصرفات وتضحيات وشعارات وهتافات وشخصيات برزت على السطح، والثانية بعد مئة عام من الآن، يتوالى على حكم مصر فيها خمسة من جنرالات الجيش، وتتبدل خلالها الأحوال تماماً، فلا يعود الناس يتكلمون اللغة العربية، ويختفي الكتاب الورقي ويحلّ مكانه الإلكتروني، ويتحول مربع «محطة الرمل» الشهير في وسط الإسكندرية، حيث تدور أحداث الرواية، إلى «بلازا المعبد المقدس»، وتنتهي «جماعة الإخوان» إلى أن تكون «شبيبة مواطني الكابلاه». وتصبح ساحة مسجد «القائد إبراهيم» أحد أماكن انطلاق الثورة المصرية، مهملة، ويختفي الترام بعد أن تغطي شبكة المترو مختلف أنحاء الجمهورية الجديدة. وتختفي كذلك أقسام الشرطة لأن الخلايا الإلكترونية تغطي كل ما يجري عبر شاشات متطورة. وتمنع السلطة المواطنين من استخدام مواقع التواصل الاجتماعي مثل «فايسبوك» و«تويتر»، ولا يعود الناس يعرفون كلمات من قبيل «ثورة»، و «تظاهرة»، و «حرية»، بعد أن تتحكم السلطة في كل شيء عبر إمكانات إلكترونية فائقة تعرف حتى ما يفكر فيه الناس وما يأملونه، و«حتى لهاث المضاجعة لا يغيب عن الرصد»، وكل من يخالف التعليمات يُذاب في الحامض. وفي المقابل، تتكفل الدولة بتوفير احتياجات الناس، وتحدد لكل واحد منهم دوره الاجتماعي بصرامة، بعد أن يمر بدورة تنشئة في طفولته تصنع منه عبداً خانعاً، وتؤهله لوضع اجتماعي يقسم المواطنين إلى «أشكناز»، و «سفارديم»، مثلما هو حاصل في إسرائيل حالياً. ويصل بين هذين الزمنين جسران، ابتكرتهما الكاتبة، كحيلة فنية تجعل المستقبل المتخيّل يعانق الواقع المعيش بلا عنت ولا عناء، الأول يتمثل في رسائل كتبتها سيدة إلى ابنها الذي تاه منها لحظة انطلاق الثورة. ظلت تلك الرسائل مخبأة إلى أن وجدها شاب بعد مئة سنة، هو طالب في «جامعة المشير»، فيُطلع عليها زملاءه سراً، فيعرفون كل شيء عن الثورة. والثاني هـــو أن هؤلاء الطلاب يحملون أسماء ثوار زماننا هــذا وكذلك أبرز مفكريه وعلمائه، فنجد منـــهم شهدي عطية، ونجيب سرور، وجـــمال حمدان، وعماد عفت، وأحمد بسيوني، ومصــطفى مشرفة، وسميرة موسى وأم كلثوم، وكل منــهم يؤدي الدور نفسه الذي كان يؤديه شبيهه في زمانــــنا. وكأن مصـــر في هذا المستقبل البعيد نســـبياً تستعيد نفسها وتستعد لعمل آخر كبيـــر وتـــاريخي وملحمي، وهو ما يحدث حـــين تنتهي الـــروايـــة بثورة جائحة، تحرر الوطن من الاحتلال، رافعة شعارات ثورة يناير نفسها «حرية - عدالة اجتماعية - كرامة إنسانية». وتدخل المؤلفة، لتكون إحدى شخصيات الرواية، مرة بطريقة متوارية حين تسرد ما عاشته بنفسها أيام الثورة الأولى ومع جهاز أمن الدولة الذي استدعاها ليعرف تفاصيل أخرى عن كتاب «حكايتي مع الإخوان» الذي سردت فيه تجربتها مع هذه الجماعة التي كانت تنتمي إليها ثم خرجت منها قبل 2011. ومرة بطريقة مباشرة حين يظهر اسم «انتصار» كإحدى شخصيات الرواية، وصديقة طلاب «جامعة المشير»، بعد تمهيد وتبرير يقول نصاً: «من قال بنظرية موت المؤلف؟ نعم إنه رولان بارت، وطالما حكم الرجل عليّ بالموت بعد أن أنتهي من كتابتي لهذه الرواية، فقد قررت أن أمارس ديكتاتورية مطلقة، وأتدخل مرة أخرى في السرد، قبل أن ينتهي، وأفقد معه حياتي». حاولت انتصار عـــبدالمنعم في روايتها تلك، وهي الثانية لها بعد «لم تذكرهم نشرة الأخبار»، إلى جانب مجموعتين قصصيتين هما «نوبة رجوع»، و «عندما تستـــيقظ الأنثى»، أن تتجــاوز تفاصيل «الآني» في الثورة المصرية بتوقع «الآتي». ولكن ربما جنح بها الخيال ليجعلها تعاند تقدّم التاريخ، وتقع في أحابيل التشاؤم الذي عبّر عنه أمل دنقل ذات يوم قائلاً: «لا تحلموا بعالم سعيد/ فخلف كل قيصر يموت/ قيصر جديد». فمن عباءة هذا البيت، وأحداث الثورة المشبعة بالتفاصيل وخيال أورويل وتجربة المؤلفة الذاتية وقدرتها على التخييل، جاءت هذه الرواية، التي تُضاف إلى مصاف أدب الثورة المصرية الذي يتوالى بلا انقطاع، شعراً ونثراً. مستقبل مصر