ألمٌ يعتصر قلب النقاء والأمانة العلمية التي يحملها كل إنسان، خاصة إذا كان هذا الإنسان علما في تخصص ما، ولعل حكايتي اليوم ستستدعي مئات الحكايات في قلوب الكثيرين والكثيرات، وستستدعيها لتجدد الألم الذي ربما محاه الزمن. الحكاية يا سادة أن رجلا من حملة حرف (د) اتصل بباحثة يطلب معلومات بحثية توصلت إليها، ولأننا بطبيعتنا طيبون نقدم الظن الحسن، وننظر إلى العلماء بإجلال، لم تتردد في تزويده بالمعلومات، ثم طلب منها وسائط تسجيلية استخدمتها في البحث فزودته بها، ثم بالبحث برمته بحجة أن الجهة المهتمة بالموضوع تريد نسختين فأمدته بالبحث كاملا، فتكون المفاجأة قاسية على عقلها وهي تقرأ في إحدى الصحف معلومات من بحثها باسم الدكتور المحترم، مما حدا بها إلى الاتصال بالجهة التي يعمل بها لتكتشف أكاذيبه. لن أتوقف عند هذه الحكاية ولا استرداد الحق المسلوب، سأتوقف عند الأمانة العلمية التي صارت أوهن من بيوت العنكبوت، وفي كل مرة نسمع بأستاذ جامعي أو طبيب أو مهندس يحمل شهادة مزورة، ثم نسمع حسيس أحاديث في المجالس عن أساتذة كبار في بعض الجامعات يكتب لهم المتعاقدون بحوثهم مقابل تجديد العقود أو خدمات خاصة، وقد ألقوا بأمانتهم العلمية وراء ظهورهم. الأمانة العلمية التي تجعل أستاذا أو أستاذة جامعية يطلبون من طلابهم بحوثا من الإنترنت، لإبرازها لمسؤولي القِسم عند السؤال عن تكليفات الدارسين، وتجعل أستاذا يزيد في درجات طالب أو طالبة لأن فلان هاتفه أو فلانة تشفعت. وأستاذ جامعي يقدم دورة مدفوعة لطلاب وطالبات الماجستير في أسس ومناهج البحث العلمي مع أنها مادة مقررة عليهم في مرحلتي البكالوريوس والماجستير كذلك، واستاذ يسعى للإشراف على الكثير من الرسائل العلمية، يظهر وبال فعلته المادية على مخرجات الباحثين لحظة المناقشة. الأمانة العلمية التي ذبلت في روح ناقد أهدرها أمام نص أدبي لمبدع متهالك مُلِئت روحه غرورا حتى تقزمت من حوله كل قامات الأدب والعلم، وهاهي الساحة تشكو غياب القامات. وناقد آخر يلقي بالأبحاث والكتب التي أوكل إليه تحكيمها إلى أصدقائه ، يتناصف مكافأة التحكيم معهم، ضاربا عرض الحائط بالثقة التي رأتها المؤسسة في شخصه، وسبب اختيارهم له. ومثقف يؤمن بضرورة تبادل المنافع الأدبية، قاعدته إن أشدتُ بنتاجك الأدبي أو العلمي، فمن الضرورة أن تكافئني بمثل هذا أو شبيهه فيما يفضح الكثير من الممارسات الثقافية المبنية على النفعية المباشرة. الأمانة العلمية التي صارت عيبا في سلوك المتمسكين بها، وصار وصف (معقد / عقدة / نشبة) مرادفها العصري، ومطلقو هذه الأوصاف أول من يهاجم المخرجات التعليمية والأدبية، ويصفها بالضعف والركاكة والهشاشة، وكأنه الشيطان الذي تبرأ منهم أمام الله ممن أغواهم. هل للمصالح المادية والمكاسب الشخصية علاقة بضعف الأمانة العلمية؟ وهل حقا نطمح في تنمية بشرية ووطنية ومجتمعية وهذه الممارسات والأنساق تنشأ في جامعاتنا ومؤسساتتنا الثقافية؟ وهل بقي لنا أمل نتوكأ على اعوجاجه، وبذرة هذا الشر العظيم تنمو في العقول التي يرى المجتمع فيها خلاصه من ظلاميات الجهل؟ أسئلة مشرشرة تؤذي العقل عندما تتحرك شفراتها في أرجائه المتعَبة، مجرد التفكير فيها مرهق، فما بالكم وهي تتنامى يوما بعد آخر، ولا يلوح في الأفق حلٌّ لوحشيتها الفاتكة بأسسنا ومؤسساتنا العلمية والثقافية، ولهذا كله، أرى أن تبحث الجامعات والمؤسسات الثقافية بجدية عن آليات ونظم تضمن الحد منها ـ على الأقل ـ إن لم تقض عليها، فقد زكمت الأنوف بروائحها المنتنة، وبات الإنسان لا يثق في الكثير من المؤسسات بسبب هذه الطفيليات المريضة التي تتخذ مواقعها من أجل مصالحها الشخصية لا أكثر. (أعلم أنك مرهَقٌ يا وطني، لكننا نتوكأ دائما على أمل أخضر كرايتك الحبيبة). أحمد الهلالي رابط الخبر بصحيفة الوئام: #مقالات مستعمرات الشيطان في جزيرة العرب بقلم :أحمد الهلالي