كانت الجهات الحكومية في الماضي تستقدم الخبراء الأجانب للاستفادة منهم في التغلب على مشكلاتها الإدارية ورفع مستوى الأداء بها، ويتم التعاقد مع هؤلاء الخبراء بمبالغ مالية ضخمة تتجاوز ما يحصل عليه رئيس الجهة الحكومية نفسها من مرتب، وكان التصور السائد في ذلك الوقت أن وجود مثل هؤلاء الخبراء سيكون مكسباً كبيراً للجهة، وأنه من الممكن للجهة أن تتجاوز كثيراً من الصعوبات والعقبات، وبالتالي فإنه مهما كانت رواتب الخبراء ضخمة، فإن الخدمات المنتظرة منهم واستفادة الجهة من وجودهم أكبر بكثير من ذلك المبلغ!. وبناء على ما سبق، فإن تلك النظرة البيروقراطية القديمة ربما ما زالت موجودة في بعض الجهات الحكومية في وقتنا الحاضر، إلا أن الغريب في هذا الموضوع أن تتسرب تلك النظرة إلى بعض المؤسسات العامة للدولة، والتي غالباً ما تنشأ لإدارة مرفأ عام يحتاج إلى مرونة أكبر في التعامل مع الأنظمة، وإلى ذمة مالية مستقلة، وإلى إدارة حرة لإنجاز مهمتها بشكل يخرجها من البيروقراطية والروتين الحكومي!. في الأيام القليلة الماضية، أثار خبر تعاقد الخطوط الجوية السعودية مع موظفة أجنبية مستشارةً للإعلام والاتصال الدولي، الغضب في مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، حيث أكد البعض أن هناك عدداً من الكفاءات السعودية المؤهلة لشغل هذا المنصب، والمواطنون أولى من غيرهم بهذه الوظيفة، في حين أكد المتحدث الرسمي للخطوط أن الموظفة ستعمل مستشارة فقط نظير خبرتها في هذا المجال في شركات عربية ودولية. وبالطبع فإن التصريح السابق للخطوط السعودية عبر متحدثها الرسمي لا يخرج عن النظرة البيروقراطية القديمة سالفة الذكر، والمتمثلة في الاستفادة من الخبرة الأجنبية لتجاوز الصعوبات والمعوقات، فالمهام المنوطة بالمستشارة خلال فترة التعاقد معها تتلخص في تقديم الاستشارات فيما يتعلق بالاتصال المؤسسي الدولي والتواصل مع الإعلام وشركات الطيران الدولية، وبالتالي فإن التعاقد معها محدد بفترة زمنية، لتنفيذ مهام محددة. والتصريحات البيروقراطية في الغالب تهدف إلى التنصل من المسؤولية والمحاسبة، وهذا ما نلاحظه أيضاً في تصريح الخطوط السعودية عندما ذكر المتحدث الرسمي أن الوظيفة تتعلق بالاستشارة فقط وليس بوظيفة العلاقات العامة، وذلك لأن نظام المؤسسة العامة للخطوط الجوية الصادر في عام 1385، نصّ في المادة الخامسة على أن من سلطات مجلس الإدارة "إصدار اللوائح والقرارات المالية والإدارية والفنية والداخلية بما في ذلك ترتيب الوظائف وتحديدها". وعلى هذا الأساس، فإن المادة الرابعة من لائحة الموظفين والعمال الصادرة عام 1386 تشترط فيمن يعين موظفاً أو عاملاً أن يكون سعودياً، ويمكن الاستثناء على هذه المادة في حال عدم توفر الكفاءات المطلوبة من السعوديين، ولأن وظيفة العلاقات العامة من الوظائف الرئيسية التي يجب شغلها بمواطنين فينطبق عليها المادة الخامسة من النظام، ولكن يمكن تجاوز هذه المادة عن طريق التعاقد مع الخبراء والمستشارين وبالتالي لا يشترط التعاقد مع السعوديين، لذلك لجأت الخطوط السعودية إلى هذا المبرر حتى لا تتعرض للمساءلة. وفي الماضي كانت الجهات الحكومية تتعاقد مع الخبراء الأجانب على وظائف استشارية، وكان هؤلاء المستشارون يوصون دائماً بالتعاقد مع شركات استشارية عالمية، بحيث يتم الإشراف من قبلهم على هذه الشركات وعلى تنفيذ دراساتهم، وفي الغالب يكون هؤلاء الخبراء موظفين في تلك الشركات الاستشارية أصلاً، وفي تواطؤ غريب يقوم الخبراء بتقييم ما تقوم به تلك الشركات وكتابة تقارير تشيد بما قاموا به ليتم صرف المبالغ المتفق عليها في العقود، وبمجرد انتهاء أعمال تلك الشركات تنتهي عقود الخبراء والمستشارين لأنهم عينوا لتنفيذ مهام معينة ولفترة زمنية محددة، وفي وقتنا الحاضر ربما تجاوزت بعض الجهات الحكومية التعاقد المباشر مع الخبراء ليكون عن طريق الشركات مباشرة، إلا أن بند الاستشارات ما زال موجوداً!. يدرك المجتمع السعودي جيداً الممارسات البيروقراطية العتيقة، ولا تنطلي عليه تلك المبررات والتصريحات التي تحاول تحسين الصورة المهترئة لبعض الجهات الحكومية، والتي كانت ربما تنفع في وقت مضى وخاصةً في ظل عدم وجود الكفاءات المحلية المؤهلة، أما اليوم فإن الجهات الحكومية جميعها مطالبة بالإفصاح والشفافية عن أعمالها وأنشطتها وعن إجراءات التوظيف لديها، والخطوط السعودية تعتبر الناقل الوطني الأول والأهم في بلد مترامي الأطراف، ولا أرى مبررا لتستثنى الخطوط السعودية من عدم الافصاح عن أعمالها وعن نتائج التوظيف بها وعن إعلان حساباتها السنوية من بين سائر المؤسسات الوطنية. لقد صدر قرار تخصيص الخطوط السعودية منذ عشرين عاماً، ودعيت الشركات للمشاركة في ذلك قبل خمسة عشر عاماً، وما زال هذا التخصيص يكتنفه الغموض!، لهذا فإن الخطوط السعودية مطالبة بالإفصاح والشفافية أسوة بشركات الطيران في العالم التي تعلن قوائمها المالية وخسائرها وأرباحها وتفاصيل عملياتها وأنشطتها السنوية، وكذلك عقودها وإجراءات التوظيف لديها، وخاصةً أن الخطوط مستهدفة بالتخصيص بالكامل.