يعيش اليوم أكثر من نصف سكان الأرض في المدن. ما يقرب من ثلاثة بلايين إنسان، نصفهم يعيشون تحت خط الفقر! عام 2030 سيصبح عددهم خمسة بلايين، سيكون نصفهم أيضاً تحت خط الفقر إن لم يكن أكثر. أين يسكن كل هؤلاء الفقراء وكيف؟ يواجه العالم مشكلة رهيبة في السكن. يزيد من تفاقمها عمليات الإزاحة والنزوح، من الريف إلى المدن ومن الأحياء القديمة إلى مناطق عشوائية، بسبب البطالة وارتـــفاع إيـــجارات السكن. هذا نراه في كثير من العواصم الكبرى في كل القارات مثل برلين وباريس والقاهرة. هذا لا يخلق فقط مشكلة سكن ولكن ينهي التمازج بين الطبقات ويتسبب في صراعات اجتماعية مثلما حدث في باريس، وتنشأ أحياء موازية غالبية سكانها من المهاجرين مثل حي مونبيك في العاصمة البلجيكية بروكسيل الذي عاش فيه إرهابيون. هناك ظاهرة اجتماعية أخرى هي أن نصف سكان المدن تقريباً من غير المتزوجين يعيش كل منهم بمفرده أو يتشارك السكن مع آخرين. هذا يعني ضرورة وجود أشكال جديدة من السكن. يواجه العالم تحدي الإجابة عن كل هذه الظواهر وتوفير إسكان لكل هؤلاء الفقراء بأسعار مناسبة. لا يكون مجرد سقف فوق الرأس، إنما يراعي الجوانب الاجتماعية والثقافية أيضاً. يحتاج العالم إلى تشييد مدينة لمليون شخص كل أسبوع، أو مسكن جديد لكل شخصين في كل ثانية، بموازنة عشرة آلاف دولار طبقاً لتقدير المهندس المعماري التشيلي أليخاندرو آرافينا. يشعر كثير من المعماريين عبر العالم بالمسؤولية في هذا التحدي فيوظفون مواهبهم وخبراتهم لإبداع تصاميم جديدة لبيوت الفقراء. موضوع تصميم مبانٍ للفقراء أو ذوي الدخل المحدود ليس جديداً. لدينا نموذج عالمي انطلق من مصر هو المهندس حسن فتحي (1900 -1989) الذي اشتهر بتصميمه لقرية القرنة الجديدة في البر الغربي لمدينة الأقصر. بدأها عام 1946 مستوحياً طرق البناء التقليدية الريفية المصرية المعتمدة على الخامات الطبيعية والمنسجمة مع البيئة مثلما كان الفلاحون المصريون يبنون بيوتهم، وكذلك استوحى العمارة الإسلامية، في طراز معماري تميَّز به يعتمد على القباب بدلاً من الأسقف المسطحة. كما أصدر كتابه «عمارة الفقراء» باللغة الإنكليزية يشرح فيه نظريته وتجربته في قرية القرنة في جنوب مصر والذي ترجم إلى اللغة العربية. على رغم أهمية فِكر حسن فتحي، الحاصل على جوائز دولية عدة في العمارة، فإن تجربته قد فشلت، ولم يسكن الفقراء عمارته. تحولت قريته إلى أطلال، ثم بنت فيها محافظة الأقصر التي تتبعها القرية مباني بالأسمنت في تحدٍ صارخ لعمارة حسن فتحي، ما شكَّل فضيحة عالمية في عهد محافظها السابق اللواء سمير فرج. عام 1962 كرَّر حسن فتحي تجربته في قرية سُميت باسمه في الواحات الخارجة في محافظة الوادي الجديد ولقيت المصير ذاته. زرت القريتين ووجدتهما خاويتين على عروشهما. كان المدهش أن أغنياء قلدوا عمارة حسن فتحي في تصاميمهم لبيوتهم بعيداً من الأقصر، في القاهرة والجيزة وغيرهما، وشرحُ ذلك يطول. لم يتوقف خيال المعماريين في تصميم عمارة للفقراء. فالفقر مشكلة أزلية. لكن أحداً في العالم، على حد علمي، لم يفكر في عمارة الفقراء مثلما فكر حسن فتحي سواء في التصور أو في الحل التصميمي. رأينا في السنوات الأخيرة تصاميم جديدة لمعماريين، وبخاصة من الشباب، من أجل الفقراء. أعرض هنا لبعض منها. اعتمد معماريون في طوكيو، التي تعتبر أغلى مدن العالم، على حكمة تقول «من يشارك يملك الكثير». ترجموها في تصميم معماري يسمح بممارسة الخصوصية في الحد الأدنى في محيط واسع يستخدمه الجميع. في زيورخ مبان مقسمة تسمح بالعيش المشترك مع تحديد نمط العيش فيها. في ألمانيا قدم المعماري الشاب فان بو لي تصميمه لمنزل صغير من الخشب متنقلاً على 4 عجلات؛ مساحته 6.5 متر مربع ويحتوي على كل الاحتياجات الضرورية لفرد واحد. يرى أن المنزل هو نوع من الاستهلاك في نهاية الأمر. لذا فعلى المستهلك أن يضع أولويات لاستهلاكه ويستغني عن كل ما يستطيع الاستغناء عنه. فيما انطلقت عام 2010 في لندن مجموعة من المعماريين البريطانيين الشباب تخصصت في عمارة الفقراء وأطلقت على نفسها اسم أسامبل «Assemble» وتعني الجمع، وهو ما تقوم به هذه المجموعة. تلتقي مع السكان والفنانين والمهندسين لمناقشة أفكار جريئة لتصميم مساكن شعبية. تراعي البعد الثقافي أيضاً مثلما قاموا بتحويل محطة وقود قديمة إلى سينما، تبدو بمثابة مربع سحري بعد أن كانت مكاناً مهملاً. وقاموا بإنشاء مسرح كامل في مكان لا يخطر على أحد البناء فيه تحت أحد الجسور، بما يذكرك بتجربة ساقية الصاوي في القاهرة. مقر المجموعة نفسها في حي شعبي في لندن. تؤمن «أسامبل» بضرورة تقديم الوسائل التي تمكَّن الناس من تغيير محيطهم. غيرت منطقة في مدينة ليفربول، كان ينظر إليها على أنها مرتع للمجرمين وتجار المخدرات. ساعدت السكان هناك على دمجهم في تصاميم مناسبة لهم. استخدمت الإمكانيات المتوافرة في الحي في تنفيذ المساكن فقامت نساء من الحي بإنتاج مواد لازمة للبناء. تحاول المجموعة في كل مشروع إيجاد طرق جديدة لأعمال إبداعية بأقل تكاليف ممكنة. تضع فيها عناصر مميَّزة من واجهة المبنى وحتى مقابض الأبواب مع مراعاة البساطة قدر الإمكان. حصلت «أسامبل» على تقدير المجتمع وجائزة تيرنر المرموقة في بريطانيا. تشيلي هي الأقوى اقتصادياً بين بلدان أميركا اللاتينية لكنها في الوقت نفسه البلد الأكبر في عدم المساواة الاجتماعية. هي أيضاً بلد المعماري أليخاندرو آرافينا (1967)، الحائز على أكبر جائزة معمارية في العالم « بريتزكر» في العام الماضي ومدير بينالي فينيسيا في العمارة في العام نفسه. إنه واحد من أكثر المعماريين نفوذاً في العالم حالياً. رجل برؤى وخيال واسع. صمم مشروعاً لبناء مساكن للفقراء في منطقة عشوائية في مدينة إيكيكي الساحلية التي يبلغ عدد سكانها 200 ألف نسمة في تشيلي. كانت فيها منازل من دون أبواب، أو أبواب من دون نوافذ. بدأ تنفيذ مشروعه عام 2003 بدعم حكومي حيث شاركت الحكومة التشيلية بسبعة آلاف دولار لكل منزل وتحمّل الملاك بقية التكلفة في موازنة متواضعة تشكل تحدياً كبيراً للمعماري وللسكان. أصبح المشروع نموذجاً للمساكن الشعبية على الصعيد العالمي. طور آرافينا هذا المشروع مع طلاب جامعة هارفارد. وهو عبارة عن تصميم بناء من منزلين مساحة كل منهما 30 متراً مربعاً. أخذ في الاعتبار التأثيرات الخارجية في العمل الهندسي كالتركيبة الاجتماعية والقنوات السياسية والمعوقات الاقتصادية. حين يلم المعماري بكل هذه الأشياء سيتمكن من تحقيق هدفه على نحو جيد. كان التحدي الأكبر لآرافينا في مدينة كونستيتسيون constitucion التي تبعد 5 ساعات بالسيارة الى الجنوب من العاصمة التشيلية سانتياجو. دمر الزلزال والتسونامي عام 2010 المدينة الساحلية التي يبلغ عدد سكانها 40 ألف نسمة. وضع آرافينا خطط إعادة البناء لأحياء جديدة مقاومة للزلازل وترتفع عن سطح البحر مئة متر. كرر فكرة المشروع الذي صممه في إيكيكي، أن يقام أولاً نصف منزل بأموال دعم حكومي ثم تتواصل عمليات التوسعة على نفقة الساكن. منزل عملي يعبر عن أسلوب آرافينا في الهندسة وهو استخدام خشب الصنوبر الذي يعتبر المصدر الطبيعي للمنطقة. خشب الصنوبر تم استخدامه أيضاً في بناء ما يسمى منصات المشاهدة المنتشرة على الكورنيش المطل على شاطئ المحيط الهادئ. أعيد بناء المدينة وصار فيها مركز ثقافي جديد. تظهر هذه المدينة قدرة الهندسة المعمارية على الإبداع والتغيير الاجتماعي بفضل تأثير المهندس أليخاندرو آرافينا ومجموعته. ثمة حاجة ملحة لأمثالهم لا في تشيلي فحسب بل في بلدان أخرى أيضاً مثل مصر التي تشهد ظاهرة لا مثيل لها في العالم، على حد علمي، وهي بناء أبراج للفقراء في المناطق العشوائية! مبانٍ طويلة بشعة بالخرسانة المسلحة والطوب الأحمر متلاصقة ولا تدخلها الشمس. كيف يشارك مهندس درس العمارة في بناء هذا القبح؟ وكيف تسمح الحكومات المتعاقبة به؟ كانت هذه المناطق العشوائية كلها تقريباً أراضي زراعية على وادي النيل. فتآكل هذا الوادي حتى كاد أن يختفي.