كثيرة هي اللقطات والتصريحات التي ركز عليها الإعلام الأميركي والغربي عموماً في الأيام الأولى، بعد تولّي ترامب، لكن غاب عن تلك التعليقات مجموعة من الأمور التي لا تقل في تقديري أهمية ودلالة عما تم التركيز عليه. فقد منح الإعلام حظاً وافراً من التغطية لإصرار ترامب وإدارته، من دون دليل، على أن هناك ما بين 3 و5 ملايين من المهاجرين غير الشرعيين أدلوا بأصواتهم في الانتخابات. وتم إفساح مساحة واسعة من التغطية الإعلامية لإصرار ترامب وإدارته، على غير الحقيقة، على أن الحشود التي خرجت يوم تنصيبه في واشنطن لمتابعة المشهد كانت «الأكبر في التاريخ». وللأمانة فإن الحدثين معاً لهما دلالة مهمة حول طبيعة الإدارة الجديدة وكيفية تعاملها مع الحقائق، خصوصاً في ضوء ما قالته مستشارة الرئيس كيلي كونويي، من أن هناك ما سمته «بالحقائق البديلة»، وكأن هناك شيئاً بالفعل بهذا الاسم! لكن هناك أمور أخرى لا تقل أهمية لم تلق الاهتمام الواجب، رغم أنها ذات دلالة على وجهة السياسة الخارجية للإدارة الجديدة. لفت انتباهي مثلاً ما قاله ترامب عن علاقته المستقبلية بوزير دفاعه. فلعلها المرة الأولى في التاريخ الأميركي، المعاصر على الأقل التي يقول فيها رئيس أميركي، علناً، إنه سوف يجعل أحد وزرائه «يتجاوزه» في قضية بعينها، وإنه يفوضه في اتخاذ القرار بشأنها. فدونالد ترامب سئل في المؤتمر الصحافي المشترك الذي أجراه مع رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، عن موقفه من إعادة الاعتماد على التعذيب الذي أقرته إدارة بوش الابن، ثم ألغي العمل به في عهد أوباما، خصوصاً أنه قال أكثر من مرة خلال الحملة وبعدها إنه يؤمن بفاعليته. عندئذٍ قال ترامب إنه سيجعل لوزير دفاعه الكلمة العليا في ذلك الصدد. والحقيقة أن ما قاله ترامب، خصوصاً حكاية «تجاوز» الوزير للرئيس تلك، غريبة إلى حد كبير على الواقع الأميركي. فالدستور الأميركي وضع كل الصلاحيات التنفيذية في يد الرئيس وحده، وليس حتى في يد مؤسسة الرئاسة. حتى نائب الرئيس الأميركي، فلا توجد له صلاحيات من أي نوع في الدستور سوى كونه رئيساً لمجلس الشيوخ، وهو منصب شرفي. فمن الناحية الفعلية، لا يحضر نائب الرئيس جلسات مجلس الشيوخ ولا حتى يرأس اجتماعاته، وليس من حقه التصويت على مشروعات القوانين، إلا إذا انقسم المجلس على نفسه بالتساوي، فيكون صوته المرجّح لأحد الفريقين. كما لا يعطي الدستور الوزير أي صلاحيات أكثر من تقديم المشورة للرئيس الذي بإمكانه أن يأخذها أو يتركها. بل إن من يقرأ الدستور الأميركي لا يجد فيه أصلاً تعبير «الوزارة» المتعارف عليه في دول أخرى. وما قاله ترامب يظل جائزاً من زاوية أن الوزير ماتيس نصحه بخصوص قضية اعتماد التعذيب. ولأنه يثق به، فإنه سينزل على رأيه. لكن ما يلفت الانتباه أن ما قاله لا يقدم إجابة حول ما ستفعله أميركا بالضبط بالنسبة لهذه القضية، فضلاً عن أنه يطرح عشرات الأسئلة بشأن علاقة ترامب بفريق العمل التابع له في الإدارة والبيت الأبيض. فاعتماد التعذيب من عدمه لا يخص وزير الدفاع وحده، لأن هناك مؤسسات أميركية أخرى معنية بالتنفيذ، منها أجهزة الاستخبارات الأميركية، والتي كانت مسؤولة في عهد بوش عن بعض السجون الأميركية في الخارج. لكن الأهم من ذلك هو الشكل الذي رسمه ترامب لعلاقته بوزير الدفاع، والذي يثير الأسئلة بشأن تفويض آخرين في قضايا خارجية أخرى، خصوصاً في ضوء منح كبير مستشاريه «السياسيين» ستيفن بانون، دوراً غير مسبوق في مجلس الأمن القومي. كان لافتاً للانتباه أيضاً المواقف المتباينة على مدار الساعة بشأن القضية الواحدة. وقد حدث ذلك مع المكسيك ثم أستراليا. وفي كليهما كان لدبلوماسية «تويتر» دور في توتر العلاقات. فترامب كان قد قال على «تويتر» إنه من الأحرى برئيس المكسيك أن يلغي الزيارة إذا لم تكن بلاده على استعداد لدفع كلفة بناء حائط بين البلدين. لكن ما إن ألغى رئيس المكسيك زيارته بالفعل، حتى أعلن ترامب أنهما، أي هو ورئيس المكسيك، اتفقا على الإلغاء! ثم عاد المتحدث باسمه واقترح تعرفة جمركية مقدارها 20% تفرض على البضائع المكسيكية لتمويل الجدار، ثم تم سحب الاقتراح. ثم عاد ترامب وكرر كلمات شديدة الغلظة عن المكسيك. والشيء ذاته جرى في الاتصال الهاتفي الذي جرى مع رئيس وزراء أستراليا، مالكولم تورنبول. فبعد الاتصال، كتب ترامب على «تويتر» غاضباً يرفض تنفيذ اتفاق وقعه سلفه مع أستراليا لتسلم لاجئين وصلوا إلى أراضي الأخيرة. وما إن تسربت أنباء التراشق الغاضب الذي دار في المحادثة الهاتفية، أعلن ترامب أنه سيلتزم بتنفيذ الاتفاق. دلالة تلك الوقائع أن علاقة أميركا بالحلفاء قبل الخصوم، ستعتريها الفوضى على الأقل في المستقبل المنظور.