×
محافظة المنطقة الشرقية

رسميًا.. الشباب يخالص وليد عبدالله 

صورة الخبر

تدفع عربة السوبرماركت الممتلئة أمامك، وتقف في طابور المنتظرين أمام المحاسب. إنه يوم السبت. لذا فإن الطابور أمامك أطول من الأيام الأخرى، ومدة الانتظار ستطول. الذي يحاسب الآن رجل عجوز يستغرق وقتاً في التحدث والابتسام مع المحاسب خلال دفع النقود كما خلال تفريغ عربته وأخذ فاتورته. الكل يقف في دوره غير مكترث، لكنك أنت مكترث، بل ونزق جداً، تفكر أنك يجب أن تتجاوز الطابور، إنه يجب أن تكون هناك طريقة التفافية ما تمنع عنك هذا الانتظار المقيت. تفكر أنك غاضب جداً، وأن كل ما تخترعه من حلول هو مجرد ألعاب ذهنية تلهي بها نفسك خلال دقائق الانتظار التي تحسبها ساعات. فأنت تعرف تماماً أنه لا مجال للالتفاف على الطابور ولا من يحزنون. لا هنا ولا في الصيدلية، ولا في محطة القطار. وتذكر نفسك إنك لدى وصولك هنا جربت ذلك والكثير من حيلك الشرقية لكنك اصطدمت بحائط الانتظار. وتعلمت أيضاً أنه لا يجوز لك تصريف احتقانك غضباً أو عبوساً، بل عليك أن توزع الابتسامات والجمل الفارغة من المعنى في كل الاتجاهات وفي كل حين. هذا درس مكرر من دروس مكررة كثيرة لا تمل من نسيانها عمداً أو سهواً فتعيدها على نفسك كل يوم وحيداً أو بمعية هولنديين. مرات تطلق على هذه الدروس من باب التودد اسم الاندماج، ومرات أخرى أكثر تحنق عليها وكأنك تعود معها طفلاً صغيراً يتعلم المشي من جديد. ولكن المشكلة أنك مهما عرفت صواب هذه الدروس وجدواها، ستبقى تجد صعوبة في تعلمها وتطبيقها تلقائياً وبلا جهد. ولعل من أصعبـها أيـضاً الالتـزام بربط حزام الأمـان في السيارة الذي تحتـاج في كل مرة إلى من يذكرك بضرورة وضعه، وإلا فإن مخالفة باهظة ستكون في انتظارك. درس آخر تعيده على نفسك هو الالتزام بالمواعيد؛ فأنت في بلادك حينما كنت تعد صديقاً أو طبيباً أنك ستأتي في الساعة الخامسة فذلك يمنحك هامشاً يتسع بين الخامسة والسادسة والنصف. كما يمكنك أيضاً إلغاء الموعد تماماً قبل دقائق من الوقت المتفق عليه، بمبرر وبلا مبرر. أما هنا فالتأخر لخمس دقائق يكلفك عتباً ولوماً من الصديق، وإلغاء لموعدك من الطبيب وهو ما لن تتمكن تعويضه قبل أشهر، مهما كانت حالتك سيئة. ومع الأمراض والطب يبرز اختلاف آخر تعيشه يوماً بيوم وألماً بألم؛ فأنت هنا لا يمكنك مع أول شعور بألم أن تأخذ حقنة مسكنة من أي صيدلية أو لدى أول بادرة رشح أن تتناول مضادات التهاب. بل على الألم أن يتواصل لأيام متعددة وأن تعجز عن تحمله أو تصريفه بأي شكل وأن تشرح للطبيب أن جسمك استنفد كل محاولاته لتصريف الألم من تلقاء نفسه، ثم يمكنك مقابلة الطبيب الذي سينظر في هذا الألم ويخبرك إنه عادة يذهب من تلقاء نفسه، وغالباً يطالبك بداية بتغيير عادات غذائية وروتين حياتك اليومية قبل أن يصل إلى مرحلة أن يصف علاجاً أو دواء! أما الدرس الأصعب الذي لم يهضمه الهولنديون ولا استطعت أنت تجاوز اختباراته بسهولة، بل ما زلت تقع فيه بين الحين والآخر، فهو قيلولة ما بعد الغداء. وجبة الغداء هنا خفيفة، والوجبة الرئيسية للعشاء على السادسة، ثم تبقى بلا وجبات إلى صباح اليوم التالي، وهذا ما يشكل لك صدمة فعلية في البداية. فكيف يبقى الواحد منا بلا طعام لكل هذه المدة، نحن الذين كنا نتناول العشاء على العاشرة مساء، ونذهب إلى النوم مباشرة؟! ولكن تغيير مواعيد الطعام كان أسهل بكثير من تجاوز الرغبة بالنوم ولو لدقائق بعد وجبة الغداء ولو كنت خارج منزلك، هذه الرغبة التي تفضحها ملامح وجهك مهما كانت الوجبة خفيفة، ومهما حاولت نسيانها أو تجاوزها. طريقة التعبير العادية بمنطق اللغة نفسها أو حتى التعبير عن المشاعر درس آخر يوقعك أحياناً في مواقف محرجة، وأحياناً أخرى في مواقف طريفة؛ ففي اللغة الهولندية يكثر طلب الاستئذان لأي أمر والشكر على كل موقف بطريقة جميلة أحياناً، تتحول مع المبالغة إلى مسألة مضجرة تفقد كل معناها إذ تشعر أنك تمثل على نفسك وعلى محدثك بكلمات فائضة تعرفان تماماً أنها لزوم ما لا يلزم. وفي الوقت نفسه، لا يمكنك التعبير عن إعجابك الحقيقي بشيء أو بشخص، أو حتى إبراز عواطفك اللحظية بشكل عفوي مهما كانت صادقة. فالمسافات في العلاقات بين الأصدقاء والأقرباء مصانة بالحرف، وأي تجاوز انفعالي لها قد يفهم بشكل مسيء ومحرج، وكل شعور حتى ولو كان تجاه تصرف لطيف من قبل صديق أو طفل في العائلة يجب أن يدرس جيداً قبل التلفظ به، ويفضل ألا يعبر عنه في حينه، بل لاحقاً في بطاقة بريدية أو هدية صغيرة. وهنا على عكس ما نحن عليه في الشرق، ليس كل كبار السن متزمتون، ولا كل الشباب منفتحو العقول ومندمجون مع روحية العصر الذي نعيشه وتغيراته. فقد تصادف شاباً يذهلك بمدى تزمته الديني والسلوكي اليـومي، وتـجالس سيـدة عـجوز تفاجئك بتبنيها لمختلف الثقافات والآراء واهتمامها بكل جديد في كل المجالات. وإذا ما واجهت جديداً أو غريباً في أنماط حياة الآخرين، أو في سلوكياتهم الشخصية يجب ألا تبدي استغرابك أو عدم تقبلك، بل عليك أن تــظل ودوداً ومتقـبلاً لهم على مـدى لقـائـك مـعهم ما استطعت، وفقط وبكل بـساطـة تمتـنـع عن مـقـابـلتـهم مرة أخرى. أما عن الاختلاف الأهم والذي قد يقلب كل منطق حياتك وطريقة عيشك لها فهو أنه لا حياة هنا ولا يوميات من دون خطط؛ فأنت تخطط لكل عطل نهايات الأسبوع المقبلة وطريقة إمضائها وأماكنها، كما تخطط لزيارات الأصدقاء وأعياد ميلادهم وهداياها قبل أشهر من موعدها، كما تخطط لرحلة الصيف، ولتغيير لون الغرفة، ولطريقة الاحتفال بأعياد رأس السنة، كما لكل يوم في الأسبوع، ولكل ساعة راحة أو عمل. حياة على شكل سلسلة متواصلة من الخطط، تبدأ ولا تنتهي، وأحياناً تعيش في الخطط التي تدور في رأسك أكثر مما تعيش في الواقع الذي يتحول أحياناً إلى تجهيز لخطة أردتها أو حلمت بها واستنزفت من جهدك وأعصابك أكثر بكثير مما استهلكه زمن عيشها الفعلي وتنفيذها. وهذا كله أو بعضه لا يزال على رغم مرور الكثير من الوقت والتجارب لا يأتيك عفوياً بل يجهدك الالتزام به كما يجهدك عيشه أحياناً، ويظل على رغم أنك تعيده على نفسك كل يوم درساً جديداً عليك استيعابه وتعلمه والنجاح في اختباره ما استطعت!