عمل الرئيس الأميركي ترامب بسرعة منذ توليه منصبه على تطبيق أسس سياسته، من فرض حظر مؤقت على قبول بعض المهاجرين واللاجئين إلى إطالة الجدار على الحدود الأميركية-المكسيكية، كذلك انسحب من الشراكة عبر الأطلسي، وتشير بعض التقارير إلى أنه يراجع اقتراحات لفحض تمويل الأمم المتحدة واحتمال الانسحاب من معاهدات دولية محددة. صحيح أن تصرفات ترامب لا تُعتبر الأولى من نوعها، إلا أن وتيرتها ونطاقها غير مسبوقين في تاريخ الولايات المتحدة. وإن كانت الولايات المتحدة تتجه، وإن مؤقتاً، نحو المزيد من سياسات العزلة، فإن هذا يسمى ميلاً كبيراً نحو نسخة متطرفة من التوقعات القائمة: تبدّل متوقَّع لكنه أكثر سرعة ووضوحاً مما ظننا. تخوض الولايات المتحدة راهناً عملية مراجعة لدورها ومسؤولياتها في الخارج، ويعتبر الجزء الأكبر من العالم هذه الدولة لاعباً ناشطاً في المجتمع الدولي، وتنتقد الدول حيناً هذا المفهوم وتشجّعه أحياناً، لكن ما تؤيده إدارة ترامب على ما يبدو يُصنَّف، إن بلغ حده الأقصى، تنازلاً عن هذه القاعدة: تخلي الولايات المتحدة عن مسؤوليتها لموازنة المصالح الدولية وللعودة إلى مكانها كأمة بين أمم كثيرة. على سبيل المثال، إن كانت الدول الأوروبية تستطيع فرض قيود على الهجرة وتدفق اللاجئين، فلمَ يستهجن العالم قيام الولايات المتحدة بالمثل؟ ولكن لنتراجع قليلاً ونتأمل في كامل نطاق التاريخ الأميركي، كانت الولايات المتحدة شبه منعزلة خلال القرن الأول من وجودها أو أكثر، متفادية الانحياز في صراع الإمبراطوريات الدائر في الجهة المقابلة من المحيط، إلا أن هذا الوضع تبدّل مع روح التوسّع غرباً الذي نشأ مع الحروب الهندية الأميركية، فقد بدأ هذا البلد بتحديد مصالحه وفق مفاهيم عالمية لا مفاهيم تقتصر على القارة أو نصف الكرة. لم تشارك الولايات المتحدة في الصراعات فحسب، بل أيضاً في صوغ السلام الذي تلاها مع بدء الحرب الباردة، ومع نهاية هذه الحرب برزت حركة دولية فعلية (مقارنة بالنشاط الذي يهدف إلى الترويج للمصالح الوطنية)، معيدةً إيحاء مُثل السلام والتعاون العالميين، وهكذا شكّلت العولمة في حقبة ما بعد الحرب الباردة حدوداً جديدة تخطت معها القيم العالمية المكان والثقافة، في حين فاقت التجارة والنمو الاقتصادي التقاليد والنزعة المحلية أهميةً. بلغنا اليوم نقطة تبدّل جديدة، ولا تشكّل سياسات ترامب سببها، بل بعض عوارضها، شأنها في ذلك شأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتشييد الصين جزراً اصطناعية، وضم روسيا القرم. ويعكس انتخاب ترامب مقاومة شعبية عميقة للنظام الدولي القائم ولدور الولايات المتحدة فيه. مع استبدال المعاهدات المتعددة الأطراف تدريجياً بتفاهمات ثنائية ستكون الولايات المتحدة صاحبة القرار، فهي أكبر شركائها الأجانب، علماً أن هذه ميزة استغلتها الصين لتحقق المكاسب في علاقاتها في شرق آسيا، ونتيجة لذلك ستقتنص واشنطن هذه الفرصة لتعيد صوغ اتفاقاتها الدفاعية بطريقة تفرض على حلفائها تقديم مشاركة فعلية أكبر (أو على الأقل الالتزام بجزئهم من الاتفاق)، علماً أن هذه الخطوة ستجعلها تفقد بعض الصداقات، وتصحح البعض الآخر، وتصنع صداقات جديدة، وفي حين تعمل الولايات المتحدة على إعادة النظر في علاقاتها الدولية وإعادة تشكيلها، ستلجأ دول أخرى إلى جيرانها بحثاً عن المزيد من الدعم والضمانات. بلغ الغرب مرحلة مفصلية في التاريخ الأميركي، مرحلة لم يكن ترامب سببها بل تجلت من خلال انتخابه، وإن لم يكن ما نراه اليوم مجرد مناورات في النظام أو محاولة طموحة جداً من رئيس جديد يسعى إلى قلب سياسات سلفه، نشهد إذاً نظاماً عالمياً في حالة تبدّل، فتبدو الولايات المتحدة راهناً مستعدة للتخلي عن مسؤولياتها العالمية، إلا أن قليلين يبدون متحمسين أو قادرين على الاضطلاع بهذه المسؤوليات بدلاً منها. نتيجة لذلك ستخلّف هذه الخطوة وراءها عالماً مجزأ تربطه التجارة، والنقل، والاتصالات اللاسلكية، إلا أنه منشغل بالمسائل الوطنية والإقليمية التي تحتل وسط المسرح، محولةً طموحات التوصل إلى حلول عالمية إلى مجرد مفهوم بالٍ من عصر ولى. «سنشهد عالماً تعمه الفوضى مع تبدّل الحماة في مناطق كثيرة، أما العامل الثابت الوحيد في هذا العالم، فسيكون استمرار قوة الولايات المتحدة ونضوجها، إلا أن هذه القوة لن تكون واضحة بقدر الماضي ولن تُستعمل بالمقدار عينه في العقد التالي». * روجر بايكر * «ستراتفور»