في الوقت الذي تحاول فيه دول مجلس التعاون الخليجي إعادة بلورة سياساتها للتعامل مع الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة، بعد أن صحَت من صدمتها المروعة، بفوز سيد البيت الأبيض الجديد؛ لعله من المفيد أن ترخي القيادة الخليجية سمعها إلى وجهة نظر غير تقليدية، ومن خارج الدوائر السياسية في عواصمها. ذلك أن المتغيرات السياسية الإقليمية والدولية التي حدثت خلال الثماني سنوات المنصرمة أثبتت دون مراء فشل النبوءات السياسية الخليجية التي أحسنت الظن في الرجل الأسود الذي ساد البيت الأبيض، وتبعاً لذلك، فإنه ينبغي للدول الخليجية اليوم تغيير معطيات فهم دهاليز صنع السياسة الخارجية الأميركية، إذا ما أرادت الحصول على نتيجة أكثر دقةً في استشراف مآلات علاقاتها خلال الحقبة الترامبية القادمة؛ إذ هي لا تحتاج إلى عقلية أينشتاين، بل ولا حتى عقلية القذافي؛ لتدرك أن استخدام نفس المقدمات سوف يؤول بها إلى نفس النتائج. ولكن وقبل الخوض في مستقبل العلاقات الخليجية - الأميركية، لا بد من الإشارة إلى شيء من ماضيها القريب؛ لأن دراسة ماضي أي حالة أساس لاستشراف مستقبل تلك الحالة، بغض النظر عن موقعها الجغرافي؛ إذ التاريخ غالباً ما يعيد نفسه، كما يقال في الأمثال. وإذا كان من سمة بارزة في تاريخ علاقات الدول الخليجية بالولايات المتحدة، فهو رضوخ الأولى للأخيرة في كل مطالبها، وهو الأمر الذي دفعت الدول الخليجية ثمنَه باهظاً دون مقابل يذكَر، في حين أن الولايات المتحدة تتعامل مع دول الخليج كـ"محطات نفطية" ليس أكثر، كما تبجَّح بذلك أحد أبرز الصحفيين الأميركيين ذات يوم. بيد أن السمة العامة في تعاملات الولايات المتحدة مع دول العالم الثالث، هي احترامها لمن يعاملها بالندية، وعدم اكتراثها بمن يدين لها بالولاء التام، ولعل في تعامل الولايات المتحدة مع إيران أو تركيا، مقارنةً بتعاملها مع دول الخليج، ما يُغني عن الإسهاب والإطناب. لذا، فإن المرحلة القادمة تتطلب موقفاً حاسماً من دول الخليج مجتمعة، وأن تضع "ثوابت" لا تحيد عنها في تعاملاتها مع حليفها عبر الأطلسي، ولأجل هذه الغاية فمن المطلوب بدايةً إنشاء "مفوضية سامية لدول مجلس التعاون" لتحديد أولويات السياسة الخارجية لدول الخليج، وتوحيد المواقف في السياسة الخارجية، وأن يكون أول مطلب للمفوضية الخليجية من العم سام هو: بتر اليد الفارسية في بلدانها. في هذا الخصوص، يحسن التأكيد على أهمية أن يكون لدول الخليج نهجها المختلف عن شِرعة واشنطن، دون أن يُخل ذلك بصداقتها معها، ومن هذا الباب، فإنه من الذكاء السياسي التصريح العلني بعدم تصديق مزاعم الإدارة الأميركية الجديدة في عدائها لإيران، حتى يبرهن العم سام على أن فِعاله أنطق من كلامه. ذلك أنه يحسن التنبه إلى أن الدعاية العلنية المتمثلة في "غضبة ترامبية" قادمة تجاه طهران لن تكون "غضبة مضرية" بمفهوم الأعراب، في الوقت ذاته، ينبغي التحذير من أن تفاؤل بعض السياسيين الخليجيين بعهد جديد يناصب العداء لقم، ويعيق برنامج العمائم النووية، إنما هو إفراط في حسن الظن، يشبه إلى حد بعيد إفراط دول الخليج في حسن ظنها بإدارة أول رئيس من أصول مسلمة. فالصفويون الجدد، الذين يعيشون نشوة النصر بعد الاتفاق التاريخي مع الغرب، يدركون أن ساكن البيت الأبيض الجديد لن يجرؤ على إعادة فتح صفحة عداء مع الخصم الذي تحالف مع إدارات البيت الأبيض السابقة له، فيما كان يسمى "الحرب ضد الإرهاب" في العراق وأفغانستان، أو ما تطلق عليه إدارته اليوم "الحرب ضد الإسلام الراديكالي"، ومن هذا المنطلق، لا ينبغي لمن يستشرف العلاقة الترامبية - الإيرانية أن يكون أقل ذكاءً من ساسة الفرس. بل إنه ليس من المبالغة القول إن العلاقات الأميركية - الإيرانية شهدت، خلال الثلاثة عقود المنصرمة، ورغم الخلاف المزعوم بين الطرفين، العديد من "محطات التعاون"، التي إليها يرجع الفضل في استمتاع الإمبراطورية الفارسية الجديدة اليوم بعصرها الذهبي، بيد أن ذلك لم يثِر الفضول لدى ساسة الخليج، وحريٌّ بمن فاته شرف ادعاء معرفة هذه المآلات، أن يقف اليوم عند كل واحدة من تلك "المحطات"؛ ليستدرك ما فاته من معرفة. إذ كيف ولماذا عقدت الولايات المتحدة صفقة أسلحة سرية مع نظام الملالي في طهران، التي ما كان لها أن تعرف لولا "فضيحة إيران كونترا"؟! وكيف توقف عداء رجل الكاوبوي للدولة الدينية فجأة؛ ليتعاونا معاً بشكل غير سري في الغزو الأميركي لأفغانستان دون أي مقدمات؟! ولأي سبب التقى "الشيطان الأكبر" مع "محور الشر" في "زواج مصلحة" إبان الغزو الأميركي للعراق، وعلى حساب مَن كان التقاء تلك العصابتين؟! ثم كيف تغض الولايات المتحدة النظر عن كون إيران أكبر مصدر للعديد من أنواع المخدرات في العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة ذاتها، كما كشفت ذلك برقيات ويكيليكس، وهي التي غزت دولة بنما ذات مرة بحجة تهريب المخدرات إلى بلادها؟! ومن منظور جغرافي أقرب إلى دول الخليج، لماذا لم تستثمر الولايات المتحدة جريمة احتلال إيران لثلاث جزر إماراتية في منطقة تكاد تكون حصراً على الأسطول السادس الأميركي، في تحريك مجلس الأمن كما فعلت مع عراق صدام حسين؟! وهل موقف الحكومة الأميركية المنحاز إلى شيعة البحرين إبان اضطرابات عام 2011، وهو الأمر الذي لم يَخفَ حتى على الحكومات الخليجية، له ما يبرره من وجهة نظر أميركية رسمية؟! بل كيف تقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي المرة تلو المرة تجاه تهديدات إيران المتكررة لحلفائها في البحرين أو الكويت أو السعودية؟! وهل باتت الولايات المتحدة طيبةً إلى حد يتجاوز حدود التسامح الإنساني، حين تغض النظر عن فظائع جرائم الحرب التي ترتكبها إيران في العراق وسوريا، وهي التي أثارت زوبعة قضائية غير مسبوقة ضد مزاعم ارتكاب مسؤولين سودانيين جرائم حرب في دارفور؟! وأخيراً أليس في تكرار جرائم النظام السوري المدعوم إيرانياً، والذي جاوز "الخطوط الحمر" التي ابتدعها أوباما، ما يثير الاستغراب من عدم تحريك واشنطن أياً من إمكانياتها السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية تجاه قادة دمشق؟! خلاصة القول إذاً، إن تاريخ العداء بين الولايات المتحدة وإيران لم يكن بالسوء الذي تظنه دول الخليج، وإن مرحلة العداء التي ينوي أن يدشنها سيد البيت الأبيض الجديد، لن يتجاوز ذلك النمط الذي سار عليه أسلافه. ولكن الأمر الأشد خطراً في استشراف العلاقة الخليجية - الأميركية خلال الفترة القادمة، هو استهداف أميركي ضد أهل السُّنة بات اليوم واضحاً لكل ذي لُب. إذ المتأمل في حملة ترامب الانتخابية وما أسفرت عنه الأيام الأولى لإدارته يلحظ جلياً استهداف ترامب الأكيد للإسلام السني دون الإسلام الشيعي، فعبارات الرجل التي تقرن كل إرهاب بـ"الإسلام الراديكالي"، وإعلانه الحرب على "الدولة الإسلامية"، دون أي إشارة إلى إرهاب الميليشيات الشيعية، وعدم اكتراثه بجرائم الحرب التي يرتكبها الحوثيون، وتأييده بقوة لبقاء النظام السوري المدعوم إيرانياً، ودعمه جرائم حكومة العراق ضد أهل السنة التي تمثل في القانون الدولي "جريمة إبادة" بحجة أنهم "دواعش"، كل ذلك لا يدعُ كثير شك في استهداف أميركي جديد لغالبية الأمة المسلمة في ثوبها السني. ومن الخطأ الظن أن استهداف الشعوب يستثني الحكومات؛ بل يمكن القول بثقة إنه من غير المحتمل أن تكون الحكومات التي احتضنت الفكر السلفي ردحاً من الزمن، حليفاً مقنعاً لسياسات سيد البيت الأبيض الجديد الذي لا يرى أكثر متعة من إثارة المفاجآت السياسية. في هذا الخضم، تبرز أهمية لَمّ وحدة الصف الخليجي وجمع كلمته للوقوف بجدية أمام "إعلان الحرب" الترامبي الجديد، الموجه في ظاهره إلى "الإسلام الراديكالي"، ولكنه لا يستهدف في حقيقته سوى أهل السنة من المسلمين. وحدها السعودية تستطيع بما آتاها الله من مكانة دينية ونفوذ سياسي وقوة اقتصادية أن تجمع كلمة الأشقاء في المجلس الخليجي وغيرهم من الدول المسلمة الفاعلة كتركيا وماليزيا وإندونيسيا؛ لترسم استراتيجية جديدة تُبنى على القيم الإسلامية والمصالح القومية والمتغيرات الإقليمية والدولية؛ لتكون قادرة على مواجهة أي تهديد تجاه مجتمعاتها. إذ الأكيد في السياسة الخارجية الأميركية أنه حين تصطدم "رغباتها" مع إصرار حلفائها على "مصالحهم القومية"، فإنه الأخير الذي سوف يسود، وقد تبينت صحة تلك الفرضية في حالتين منفردتين؛ تمثلت الحالة الأولى في قرار القيادة السعودية إرسال قوات درع الجزيرة إلى البحرين في أعقاب اضطرابات عام 2011، دون موافقة أو حتى علم البيت الأبيض، وتمثلت الحالة الأخرى في قرار "عاصفة الحزم" الذي أطلقه العاهل السعودي من أجل تحرير اليمن من القبضة الفارسية، من هذا المنطلق، فإن "عقيدة الخوف" التي لازمت الدول الخليجية في تعاملها مع النسر الأميركي ليس لها ما يبررها. وغني عن القول أن مؤازرة الشعوب الخليجية لحكوماتهم تفسد محاولات التدخلات الأجنبية أياً كانت؛ إذ الطريقة التي طالما أحسن ساسة الغرب صنعها، قبل الانقضاض على أي أمة، هي التفريق بين الحاكم وشعبه، ربما كان الغزو الأميركي - البريطاني للعراق أشهرها. وبالمقابل، فإن في تأييد شعب أردوغان له ليلة الانقلاب في الخامس عشر من يوليو/تموز 2016 دروساً وعبراً لا غنى لدول الخليج عن الوقوف عندها، لعل أبلغها هو معرفة القوة الحقيقية للشعب، في مواجهة أي مؤامرة داخلية كانت أو خارجية. وإذا كانت العرب تقول: "السعيد من وُعظ بغيره"، فمن الحكمة الاستفادة من دروس تخلي الولايات المتحدة عن كل من: شاه إيران، ومشرف باكستان، ومبارك مصر، الذين لم تُذرَف عليهم الكثير من الدموع؛ لأنه "من يأبَ أن يتعلم من التاريخ يصبح درساً من دروسه". ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.