×
محافظة المنطقة الشرقية

الرئيس الأمريكي باراك أوباما يصل الرياض

صورة الخبر

مع ما بين مسارات العقل ومسارات الوجدان من تفاعلات جدلية، تحكم باستحالة الفصل بينهما على مستوى الممارسة الفعلية؛ إلا أن التحول العقلي لا يحدث بنفس السرعة التي يحدث بها التحول الوجداني. التحوّل العقلي المعزول عن الوجدان افتراضاً لا يحدث إلا نتيجة عملية معرفية تراكمية، عملية لا ينهض بها شاهد واحد، ولا معلومة شاردة، ولا حتى اكتشاف واحد؛ مادام أحادي الاتجاه. ولهذا لا يوجد كتاب واحد له تأثير حاسم، بحيث يُنهي بضربة واحدة مرحلة فكرية، ويُدشّن لمرحلة فكرية أخرى. كنت أرى الإسلاموية مظلومة إلى حد كبير، ولكن، باندلاع التطرف الأصولي ابتداء من عام 1993م تبيّن لي أن المسألة ليست أسود أو أبيض، كما كانت الإيديولوجيا الإسلاموية تُحاول إيهامنا، فعنف الأصولية كان دموياً وعبثياً وغبياً، بحيث بدا غير مبرر بأي مبرر، وخاصة ذلك التبرير الذي يقفز على كثير من الحقائق لكن، ومع هذا، فمما لا شك فيه أن بعض الكتب له قوة تأثير، إن لم تكن حاسمة، فهي تقود إلى نوع من الحسم. هناك من الكتب ما يستطيع أن يصنع أو أن يجترح توجهات قرائية غير مسبوقة، هناك من الكتب ما يستطيع أن يفتح نوافذ وجدانية أو معرفية يستحيل إغلاقها، هناك من الكتب ما يستطيع أن يُعيد ترتيب ما تمت قراءته سلفاً، بحيث يقود في النهاية إلى نوع من التحولات، بل وإلى فتح حقول قرائية غير مسبوقة وغير متوقعة، من شأنها أن تأخذ القارئ في مسارات أخرى لم يسبق له أن توقعها في يوم من الأيام. كنت تقليدياً في بيئة يحكمها التقليد في كل شيء. تقليدية في الدين، وتقليدية في الفكر، وتقليدية في الأدب/ الشعر، وتقليدية في نمط الحياة ككل...إلخ التقليديات الحاكمة التي اضطهدتني. وبما أنني عشقت الأدب، وبدأت ألامس ولو من بعيد إشكاليات الفكر، فمن الطبيعي أن يكون هذا الأدب تقليدياً، وأن يكون هذا التعاطي البدائي مع الفكر غير متحرر من الرؤية التقليدية العامة. ولا شيء وسط هذا المناخ التقليدي؛ إلا نفسٌ قلقة تنطوي على تمرد وَجِل، نفس تأبى الإذعان لكل صور التطويع الفكري والاجتماعي أيا كانت المبررات، نفس تتوق إلى التحرر، إلى أن تمسك بذاتها، وليس أمامها إلا نافذة القراءة التي بدت مشرعة على أبوابها، أو هكذا توهمت آنذاك. لأجل هذا المبدأ التحرري تفاعلت مع الأدب، ولكن في صورته التقليدية، فبات الشعر الحقيقي لدي هو الشعر العمودي، وما لم يكن شعراً عمودياً على صورة ما نظمه سدنة الشعر الكبار: طرفة والأعشى وامرؤ القيس والمتنبي وأبو تمام والمعري، فليس بشعر. حتى النثر، لا بد أن يكون على منوال ما كتبه أو نقله الجاحظ وابن قتيبة والمبرد وابن عبدربه والقالي وأبو حيان التوحيدي. وبالنسبة للعصر الحديث، فشوقي وحافظ وخليل مطران والجارم، وأبو ماضي إلى حد ما. وكان رموز النثر العربي الحديث، من طه حسين إلى العقاد، مرورا بكل المشتغلين بالدراسات الأدبية الكلاسيكية من منظور كلاسيكي، هم وجهتي في القراءات النثرية الحديثة. وهذا يعني أن من الطبيعي أن أواجه الكتابات الحداثية بشيء غير قليل من النفور؛ نتيجة انطباع ذائقتي القرائية بهذه العوالم التقليدية التي ترى في نفسها مشروع الأصالة في الأدب العربي. ولا يخفى على المهتم ازدراء العقاد مثلاً لشعر التفعيلة، بجيث أحال كل شعر على هذا النمط إلى لجنة النثر؛ يوم كان رئيسا للجنة الشعر. وقد كان العقاد يفعل ذلك كتعبير عن عدم الاعتراف. إن عشقي للشعر العربي القديم هو ما قادني إلى هذا التحيز الانغلاقي أدبياً. هذا العشق هو ما دفعني إلى تصوير مئات الصفحات التي تحتوي على قصائد نادرة، أو كنت أراها كذلك. ففي عام 1990م كنت في حدود التاسعة عشرة، لا أزال أذكر!، لقد كانت لدينا مناسبة عائلية في الرياض، وقرب مبنى الحرس الوطني في الرياض لمحت لوحة مكتوب عليها (مكتبة الملك عبدالعزيز)، سألت ابن عمي: هل أي إنسان يستطيع الدخول إلى هذه المكتبة؟، قال: نعم، هي مكتبة عامة. لهذا، عدت لوحدي بعد شهرين إلى الرياض، لا لشيء إلا لأزور هذه المكتبة، متوقعاً أن أجد فيها من الشعر ما لا أجده في المكتبة العامة في مدينتي الصغيرة، خاصة وأن هناك دواوين لشعراء مغمورين أقرأ عنهم، وأجد لهم مقطوعات شعرية رائعة في كتاب الأغاني، ولكني أتحسّر؛ إذ لا أجد دواوينهم بين يدي. بينما أنا في مكتبة الملك عبدالعزيز أتصفّح ركن دواوين الشعر العربي القديم، كنت أسمع أصوات الطائرات الحربية تملأ الأجواء بالرعب وهي تحلق على ارتفاعات قريبة؛ لأن المطار القديم كان على مقربة من المكتبة. الأجواء كانت أجواء حرب، إذ لم يمض على اقتحام صدام للكويت أكثر من ثلاثة أشهر تقريباً. في الوقت الذي كان يجري فيه الاستعداد للحرب، كنت أستمتع بالعثور على كنوزي الشعرية في مكتبة الملك عبدالعزيز. وجدت كثيراً من الدواوين التي كنت أبحث عنها، وعندما قلت لموظف المكتبة، أعرني هذه الدواوين لأصوّر منها، قال: التصوير في المكتبة. فرحت بهذا جداً، فهذا يُريحني من عناء الاستعارات المتواصلة التي خططت لها، ويختصر عليّ الوقت جداً. كنت أقرأ كل ديوان، ثم أضع أرقام عشرات الصفحات في ورقة صغيرة لتصويرها. بعض الكتب صورت منها أكثر من 100 صفحة رغم أنها لا تتجاوز 200 صفحة. كان التصوير في ذلك الوقت (1990م) ليس له مكان مخصص، بل توجد ماكينات التصوير في مكان داخل غرف المكتبة، وهناك موظف يصور لك. والحقيقة أن عدد الصفحات كان كبيراً جداً، ومن ثاني كتاب، لاحظت الضجر على الموظف، وسألني مستغرباً : لماذا تصور كل هذا؟ أحسست وربما أكون مخطئاً أنه سيرفض تصوير أية ورقة أخرى؛ لو أخبرته أنه يتعب معي كل هذا التعب لمجرد أنني أعشق الشعر من زاوية اهتمامات ذاتية. لم يكن لي أن أدعي اهتمامات بحثية، خاصة وأني في عمر لا يسمح له بتصوري باحثاً من أي درجة. لقد كان من الواضح أنني أرهقته، بل وتسببت له بحساسية في جيوبه الأنفيّة، أثارتها روائح الحبر الصادر عن ماكينات التصوير. كان سؤاله يشي بأنني أرهقته، بل وأمرضته؛ إلى درجة أنه كان يمسك منديلاً ورقياً بيده طوال فترة التصوير. ولهذا، وكي أتمكن من تصوير كل ما أطمح إليه، قلت له ببداهة أحسد عليها ! : أختي عندها بحث. هنا، صمت، وبدأ يعمل تحت وطأة الإحساس بالواجب تجاه فتاة باحثة أرسلتني ولا تستطيع الحضور بنفسها. وكانت كذبة عادت عليّ بكثير من الخير، أو ربما بكثير من الشر!، فالشعر بابه الشر، كما يقول الأصمعي، إذا دخله الخير ضعف ولان. سهرت الليالي مع الغاوين، مع الشعراء الهائمين بكل وادٍ من أودية الخيال. عدت إلى غرفتي مُحمّلاً بقصائد لم تفتضها عيناي من قبل. تلك اللحظات كانت من أسعد اللحظات في حياتي، بل ولا تزال من أجمل ذكرياتي التي أستعيدها بين الحين والآخر. قصائد لابن مقبل ولعمرو بن أحمر ولأبي النجم ولهدبة بن الخشرم...كنت أرى أبياتها المبعثرة في كتب الأدب القديم، والآن أراها بكامل زينتها أمامي. هذا العشق للشعر، بقدر ما أفادني وأسعدني؛ بقدر ما أضر بي ضرراً موقتاً من ناحية أخرى. لقد رأيت الشعر في حدود هؤلاء. وبسببهم، أو بسبب هوسي بهم، لم أقرأ شيئاً من الشعر الحر، بل كنت أراه عبثا مُعربداً يتعمّد انتهاك أقدس المقدسات: الشعر!. كنت إذا رأيت مقطوعة من الشعر الحر أمامي، أشعر بالغيظ الشديد تجاهها، وأرى أن صاحبها يعتدي اعتداء مباشرا عليّ، إنه يتعمّد إحراق جَنّتي التي أتفيأ ظلاها، والتي يمتد غرسها منذ 1600 عام، من الجاهلية وإلى وفاة شوقي!، إنه يستمتع بتقويض مملكتي وتحطيم قصوري على رؤوس من فيها من الحوريّات/ القصائد اللاتي يمنحنني بكرم خيالي كل ما أطمح إليه في عالم الفناء، أو في عالم بات بهن يستعصي على الفناء. في تلك السنة، كنت أسمع بالحداثة، ولا أهتم بالحداثيين. لم يكونوا من عالمي الذي اصطفيته على عيني، رغم وشائج الأدب. بل ربما فرحت بما يجري لهم من اضطهاد؛ ليس من منطلق إيديولوجي، وإنما من منطلق فني/ أدبي، يتعلق بكونهم كما كنت أتصورهم في تلك الأيام دعاة هدم الشعر العمودي، أي هدم الأدب الحقيقي! وهم بهذا المنظار الخاص بي ليسوا أدباء، بل أدعياء في عالم الأدب. ولا شك أن هذا تصور أدبي متطرف، لا يختلف عن التطرف الديني إلا في طبيعة محتواه. كنت أظن كالمتطرف الديني أنني ممسك بالحقيقة الأدبية المطلقة من أقطارها؛ لمجرد أنني حفظت بشغف هواياتي أشياء، ولم أتفطن إلى أن ثمة أشياء كثيرة غابت عني، رغم أني كنت كثيراً ما أترنّم بقصيدة أبي نواس التي منها قوله: " حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء"، ولكني كنت أتصور أن كل أحد يمكن أن ينطبق عليه هذا الشطر إلا أنا. وهذا هو غرور المتطرفين في أي مجال. ربما كانت سنة 1991م تشي بشيء من التحوّل. التحوّل العقلي كما قلت سابقاً لا يحدث لمؤثر واحد. تجمّعت بعض المؤثرات التي جعلتني أتحول في بعض قراءاتي. كان هناك كُتيّب صحوي/ غفوي صدر منذ ثلاث سنوات، يضع صاحبُه الحداثةَ في ميزان الإسلام (على طريقته). وصلتني نسخة من هذا الكتيب الذي وُزّع على نطاق واسع؛ هدية وعظية!. مكثت النسخة لديّ بضعة أشهر لم أقرأ فيها. لكن، عندما أهداني أحدهم شريطين عن الحداثة، وهما لصديق صاحب الكتيب، سمعتهما مباشرة وأنا في السيارة، كنوع من التسلية. وهكذا اطلعت على معركة لم أكن أعرف كنهها. وبفضل هذين المتطرفين سمعت كثيراً من الأسماء التي لم أسمع بها من قبل. لكن، أهم ما لفت انتباهي أمران: الأول: هو أن الشعر الحر ليس مجرد عبث يصدر عن كسول لا يريد أن يتعب في نظم الشعر العمودي الصارم في عروضه، بل هو فعل خطير، يتسبب في استثارة كثير من ردود الأفعال. أدركت من خلال هذا الشريط فعالية الشعر الحر؛ حتى وإن لم تستسغ ذائقتي فنيته. ومع هذا، بدأت العلاقة بيني وبينه، علاقة لم تعد بفضل هذا الشريط الوعظي الاحتسابي عدائية كما كانت. من المفترض أن يثير هذا الشريط في نفسي العداء الإيديولوجي لهذا الشعر الذي كنت أعاديه فنياً، ولكن كانت النتيجة عكسية، فقد ردم شيئاً من الهُوّة التي كانت بيني وبينه، وجعلني أرى فيه شيئاً يستحق الاهتمام. الثاني: أن هناك معركة واقعية مُشوّقة تستحق الاهتمام، معركة حامية الوطيس، مفتوحة الجبهات، والأهم أن التواصل معها سهل، إذ يمكن متابعتها من خلال الكتب. ومعنى هذا أنني أستطيع متابعتها ومعرفة أسرارها بشيء من المتعة؛ لأنها تنتمي إلى عالم بات محبباً إليّ: عالم الأدب. خلال عبوري صفحات هذا الكتيب الاستعدائي، كان هذان الأمران هما اللذان يستوليان على جل اهتمامي. هناك أثرٌ لم أتنبه له ساعة القراءة، وهو يتمثل في ذكره لبعض الأسماء والكتب التي أشْكَلها عقائدياً هذا الكتيب، والتي ستلتصق بالذاكرة عرضاً، ولن تظهر إلا حين أصادفها في مناسبات قادمة، إما على صفحة جريدة أو على غلاف كتاب. هكذا عرفت الجابري والسريحي والغذامي والبياتي...إلخ كأبطال لرواية الحداثة؛ وفق ما يسرده هذا المؤلف الصحوي الذي كان يريد من وراء هذا الكتاب تنفيري وجيلي من عالم الحداثة، فكانت النتيجة عكسية تماماً(على الأقل في حالتي)، إذ كان هذا الكتيب الرديء هو الذي قام بالخطوة الأولى لعقد الصلح بيني وبين الحداثة التي وضعها في سياق محاكمته كنقيض ضدي للإسلام. في هذه السنة أيضاً، ونتيجة قراءتي لكتاب إحسان عباس: تاريخ الأدب الأندلسي، تمت المصالحة مع الموشحات، وهي التي كنت في السابق أراها إفساداً لموسيقى الشعر العربي الذي يقف المتنبي متربعاً على عرشه، يحكمه بقوانينه الاستبدادية التي لا ترضى بما دون 100% من الهيمنة على الذائقة بكل تفاصيلها. كان الوله الطارئ بالموشحات اختراقاً من شأنه أن يُمَهّد الطريق إلى عالم الشعر الحر، خاصة وأن شيئاً منه لامس ذائقتي في ذلك الكتيب الدعوي التحريضي. كنت قد قرأت كتاب تاريخ النقد لإحسان عباس بتمعّن (باستثناء ما كتبه عن حازم القرطاجني، صاحب كتاب: منهاج البلغاء، فقد كان مما يستعصي عليّ آنذاك)، وجعلني أعيد قراءتي لكتب النقد القديمة، وأتأمل في بعض قضاياها التي كانت تمر بي مروراً عابراً، بينما في الحقيقة هي أهم ما في الكتاب. هذا جعل إحسان عباس مألوفاً لديّ. ولهذا عندما أردت معرفة أسرار الشعر الحر، اتجهت إلى كتابه: اتجاهات الشعر العربي المعاصر. من قبل، كنت أرى هذا الكتاب في المكتبة العامة، ولكن لم أكن أهتم به، لأني عندما تصفحته ووجدت الشواهد من شعر التفعيلة؛ زهدت فيه. الآن، وبعد تصالحي مع الشعر الحر، رأيت أن أعود إليه؛ لأنه الأقرب إليّ، مكاناً ومُؤلِّفاً. يمكن اعتبار كتاب إحسان عباس: اتجاهات الشعر العربي المعاصر، هو قنطرتي الأهم إلى الشعر الحداثي، ومن ثم إلى الفكر الحداثي. وصلني هذا الكتاب بالسياب وبالبياتي إلى درجة أني حفظت (غريب على الخليج) قبل أن أغلق الكتاب. لم أكتفِ بقراءةٍ واحدة، أعدت قراءة بعض أجزاء الكتاب أكثر من مرة، وقد نقلتني غنائية السياب إلى عوالم فنية أخرى تتجاوز الغنائية ذاتها، بحيث بت أطرح الأسئلة (المتناسبة مع وعي المرحلة) على ماهيّة الإبداع. وهنا عرفت أن في الشعر الحديث ما يفوق الشعر القديم، مع استثناء المتنبي بطبيعة الحال! في هذه الأثناء، وربما بعد قراءتي لكتاب إحسان عباس بشهرين أو ثلاثة، رأيت كتاب الغذامي (الموقف من الحداثة ومسائل أخرى) في إحدى المكتبات التجارية. ولأنني بت مشتبكاً مع الحداثة من منظور أدبي، فقد اشتريته، وأعادت لي المجادلات التي زخر بها الكتاب شيئاً من التوازن، بحيث زاد هذا الكتاب من ولعي بالمنتج الحداثي ككل. والأهم أنني بعد هذا الكتاب اتضحت لي إلى حد كبير أبعاد المعركة مع الحداثة، واستفزّني هذا الاستخفاف الأصولي بقداسة الأدب، ومن ثم وبعد بضع قراءات استفزني جهل الوعاظ المؤدلجين بالمواضيع التي يجعلونها غرضاً لهجومهم المقيت. انتقالي التطوري من الأدب/ الشعر التقليدي إلى الأدب/ الشعر الحديث هو الذي سينقلني من غير وعي من عالم الفكر التقليدي إلى عالم الفكر الحديث المنفتح على التحولات اللانهائية. وهذا يؤكد أن بُنية الانغلاق واحدة، فمن يتطرف في الانغلاق هنا سيتطرف في الانغلاق هناك، والعكس صحيح. دينياً، لم أستسغ التقليدية الأثرية قط. لكنني كنت في تلك المرحلة ذاتها متماهياً مع الأطروحة الإسلاموية المعاصرة، بالقدر الذي كنت فيه مُزورّاً عن التقليدية الأثرية. لقد كنت قبل هذا التحوّل النسبي المحدود أرى الحل في المشروع الإسلاموي المتمثل في تيارات الأسلمة. بعد سنتين من قراءاتي عن معركة التقليديين/ الأصوليين مع الحداثة، لم يعد إيماني بالمشروع الأصولي كما كان. طبعاً لم يضمحلّ تماماً، ولكن لم يعد كما كان. أحسست أن عالم الأدباء الحداثيين عالم واسع يمنحك الحرية على أوسع نطاق، بينما عالم الإسلامويين المؤدلجين يأسرك، ويحسب عليك خطواتك، ويضعك في عالم ضيّق، بل يمتهنك بوصفك مجرد رقم تائه في مشروع كبير، مشروع موهوم بتنا نرى اليوم كيف بدأ يتساقط وتذروه الرياح كأوراق الخريف. أكره بالفطرة أي خطاب يحاول ممارسة هيمنته، وفي أي مجال كان. ولهذا كثيراً ما كنت أتعاطف مع المضطهدين، ولكن، بمجرد ما يزول عنهم الاضطهاد، ويبدأون بممارسة دورهم في الاضطهاد، يتحولون في نظري إلى أعداء ألداء. كنت أرى الإسلاموية مظلومة إلى حد كبير، ولكن، باندلاع التطرف الأصولي ابتداء من عام 1993م تبيّن لي أن المسألة ليست أسود أو أبيض، كما كانت الإيديولوجيا الإسلاموية تُحاول إيهامنا، فعنف الأصولية كان دموياً وعبثياً وغبياً، بحيث بدا غير مبرر بأي مبرر، وخاصة ذلك التبرير الذي يقفز على كثير من الحقائق؛ عندما يدعي أن عنف الأصولية ليس أكثر من ردود أفعال. نتيجة هذا التحرر النسبي؛ بدأت أتطلّع إلى عوالم قرائية، بل وحياتية، أوسع. لهذا وبمجرد بلوغي 21سنة، حيث يسمح النظام لي باستخراج جواز سفر، استخرجت جواز سفر، مع أني لم أعرف إلى أين سأسافر. المهم أني أحسست أنني حر، أستطيع السفر متى شئت. انتظرت حوالي ستة أشهر، حتى حان وقت أهم حدث محفّز للسفر بالنسبة لي. كانت إجازة منتصف العام الدراسي، وكان معرض القاهرة الدولي على الأبواب، وعزمت على زيارة هذا المعرض الذي يقولون عنه إنه أكبر معرض للكتاب في العالم العربي. وهنا ستبدأ رحلة موجعة مع الرقيب المنتظر على الأبواب بعد العودة. إنها من ذكريات تلك المرحلة المتوترة قلقاً وألماً. اليوم هي مجرد ذكريات، لعل وعسى أن أجد فرصة لسردها في حلقات، ربما بعد شهور، وربما بعد سنوات.