قبل نصف قرن وأكثر، كانت علاقته بالمعرفة لا تتعدى جهاز راديو قديماً خشبي الإطار كبير الحجم طويل «الأنتين» لاقط الموجات، يتفاخر باقتنائه لنوعه وفخامة صندوقه المصنوع من خشب البلوط الأملس، كان يرفع صوته لتصدح أم كلثوم بالحب من ثورة الشك إلى هزيمة العشاق فيسمعها جار الجار والمارة. أربعة أشياء كان يدمن سماعها أبو ناصر العربي؛ حفلات أم كلثوم المباشرة، والتعليق المباشر الدقيق لبطولات الملاكم محمد علي كلاي التي كانت تبثها محطات الإذاعة لندرة التلفاز في ذلك الزمان، نشرات الأخبار من هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، والخطابات الحماسية للرئيس المصري الراحل عبدالناصر، وإذاعة صوت العرب من القاهرة التي طال لهيبها القاصي والداني. وحيث إن التعاطي بشؤون السياسة آنذاك ينطوي على مخاطرأهمها الخوف على رزقه، كان يستمع إلى النشرات الإخبارية والخطب النارية بأثيرها المخنوق تحت اللحاف وغرفته المغلقة نوافذها ومنافذها خشية أن يتسلل هدير معانيها فيفتضح أمره ويُساق بتهمة القومية المعادية للقُطْريّة الوطنيّة. استمع أبو ناصر للمذياع بين النشوة بأنه أول من يبشر أهل الحي ببطولات الملاكم محمد علي كلاي، والافتخار بأنه الوحيد في الحَيّ الذي يبث صوت أم كلثوم مباشرة بأعلى صوت فَيَطْرب ويُطْرب، ومن جهة أخرى بين إنكار وجود المذياع ودفنه حيّاً عند كل نشرة أخبار نارية وَخُطبٍ ثورية قومية تبثها إذاعة «صوت العرب». هي النشوة ذاتها التي تعتريه في كلتا الحالتين، الأولى جَهَاريّة يحركها الفرح والتباهي بفرادة المُلْكِيّة، والثانية مكبوتة يحركها الخوف والقلق. تأصلت عقدة خليط التباهي والخوف لدى أبو ناصر العربي، ولم يعالجها الانتشار السريع لأجهزة التلفاز في البلدة وغياب الخطب النارية برحيل صاحبها، وتراجعت القومية العربية، وانتعشت القطرية الوطنية، وهُزِم محمد علي كلاي، وماتت سيدة الغناء العربي، ونبتت فاتناته بلا منديل في اليد أو حتى وشاح على الصدر، واجتاحت الفضائيات البيوت، وانتحر المذياع في كل مكان إلا عند أبو ناصر الذي بلغ من الكبر عتيّاً.. اجتمع أبناء وبنات أبو ناصر، وفاجأوه بأنهم قد اشتروا تلفازاً ملوناً مسطحاً ذكياً حديثاً مع جهاز استقبال فضائيات عربية متنوعة تعمل على مدار الساعة في كل أيام الأسبوع، رفض الأب المسكون بالخوف على رزق أولاده حيث عَلِم أن بعض المحطات تتطاول في برامجها وتتجاوز الخطوط الحمر التي قد تجر على مستمعيها الويلات من حيث يدرون ولا يدرون، وأن البعض الآخر من هذه القنوات هي للرقص والشخلعة والخلاعة. تمرّد الأبناء وتآمروا على والدهم العجوز، وقرروا أن يفاجئوه بالتلفاز المسطح الذكي وجهاز استقبال لا حدود لقنواته الإخبارية الجديدة والغنائية الاستعراضية وهز الجسد من أسفله إلى أعلاه. وحتى يخففوا الصدمة الأخلاقية عليه ضبطوا الجهاز على قناة إخبارية شهيرة عُرِفت بجرأتها وتجاوزها التابوهات السياسية من مفهوم الإعلام التقليدي، وكانت صدمة كبيرة عندما عاد ذات مساء من صلاة المغرب ليجد برنامجاً يتناقر فيه الساسة، ويتهمون بعضهم ورموزهم وقادتهم بالتخوين بالصوت والصورة وبالصراخ وحتى التطاول بالأيدي وبنفض المياه من كؤوسها في الوجوه. بُهِت الأب العجوز وبسرعة أطفأ التلفاز وأغلق النوافذ والأبواب وكبت صوته المرتجف، وهمس مرتعباً مخنوقاً في وجه أولاده: ألا تخشون الملاحقة، للحيطان آذان، وللنوافذ عيون. ضحك الأبناء وأخبروه أن هذه الفضائيات هي الإعلام الفضائي يجتاز الحدود ويكسر المألوف وأنها تصل كل بيت ولها مكاتب رسمية في البلاد، ومن حق كل إنسان أن يشاهد ما يرغب ويهوى. لم يقتنع الأب العجوز، بقي مرتجفاً وذهب ذلك المساء إلى المسجد ليصلي العشاء، وهو يتلفت وراءه خوفاً من أن يعتقله أحدهم بتهمة التآمر مع الفضاء الخارجي. عاد إلى المنزل وأغلق النوافذ والمنافذ والأبواب، وبأصابع مرتعشة أشعل التلفاز ليشاهد الأخبار، لكنه وجد قناة فضائية استعراضية غنائية، «مرتع للعاريات العاريات» كما وصفها لاحقاً لأبنائه وحذرهم من مشاهدتها ثانية. وطلب منهم أن يشاهد على صوت منخفض القناة الإخبارية الجريئة بشرط عدم فتح النوافذ. فرح الأبناء أن ثمة تحول جريء واستثنائي قد طرأ على والدهم المعتّق المُغمّس بالخوف والهزائم. وعلى مدى أشهر من متابعة الفضائيات الإخبارية أدرك العجوز أن الإعلام والبشر والفنانين والسياسة والساسة قد تغيروا، وأنه كان المتجمد في إحباطاته على مدى عقود من النكبات والنكسات. علا صوت الأخبار في حضرة الأب، وَشُرّعَت النوافذ والأبواب، لأن العجوز أدرك أن المحرمات السياسية لم تعد كذلك، وقد غدت برامج لا تختلف عن استعراضات قنوات الترفيه. ذات يوم عاد أبو ناصر العجوز يتكئ على عكازه إلى المنزل، ويتلمس بهدوء خطاه على درج البيت، فسمع الفضائية السياسية وسط جلبة المتحاورين المتصارعين الذي نعته ببرنامج «حوار الطرشان»، وما إن دخل حتى صرخ بوجه أبنائه، كفاكم هذه البرامج السياسية النطاحة، وقال: حوّل إلى فضائية ترفيه أخرى لنشاهد الاستعراض الراقص فهو أصدق إنباءً من السياسة.