مع الاعتراف بأن لكلِّ حضارة فلسفتها وعلومها الاجتماعية وآدابها وقوانينها وفنونها التي تتناغم في ما بينها وتشكل الملامح المميزة لهذه الحضارة أو تلك، وتساهم في تحقيق فاعليتها وتقدمها من أجل سعادة البشرية، ومع سريان قانون «تلاقح الحضارات» بفاعلية وإيجابية مع هذا وذاك، تتناص الفلسفات، وتمتزج العلوم والفنون والآداب والثقافات الحضارية. ولكن هذا «التَّناص الحضاري» لا يعني أبداً، في حال فاعليته وإيجابيته، ذوبانَ ذات حضارية في ذات حضارية أخرى، وإلا نشأت حال مرضية من «التبعية» وفقدان الاستقلالية والدخول في حال «اللاوظيفية» وانعدام الفاعلية لتلك الفلسفات والعلوم المنقولة من سياق حضاري إلى سياق حضاري آخر. وبمراجعة وقائع التفاعل الحديث والمعاصر بين موروثات الحضارة الإسلامية وفلسفاتها وجملة علومها العمرانية، وبين مستحدثات الحضارة الغربية وفلسفاتها وجملة علومها الاجتماعية والمدنية، يتبين أن تلك الوقائع أدت إلى فقدان استقلالية العلوم العمرانية لمجتمعات الأمة، ولم تكسبها وظيفية أو فاعلية تلك العلوم الحديثة المقتبسة. فـ «اللاوظيفية»، هي أنسب صفة لحال «العلوم الاجتماعية» (إذا خصصناها هنا) في أغلب مجتمعات الأمة الإسلامية في تاريخها الحديث والمعاصر، منذ بدأت النخبة الحداثية في نقلها واقتباسها من المدارس الغربية قبل أكثر من مئة سنة. وهذه الصفة «اللاوظيفية» هي ما أسهب في بيانها أشمل التقارير الدولية في علم الاجتماع (يصدر كل عشر سنوات)، وهو تقرير منظمة «اليونيسكو» الصادر في عام 2010 عن حال العلوم الاجتماعية في العالم. هذا التقرير أوجز الحال في عبارة عميقة الدلالة تقول: «في العالم العربي عددٌ كبير من الطلبة والجامعيين ذوي المواهب العالية في العلوم الاجتماعية، لكن لا يكاد يوجد لديهم هدف محدد لبحوثهم» (ص68). ولم تبتعد من هذا الحكم كل المراجعات النقدية التي قامت بها جماعة من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية في بلادنا، ومنها كتاب: «الاتجاهات البحثية لرسائل الدكتوراه في الجامعات العربية» (صدر عن منتدى العلوم الاجتماعية 2016)، وهو عمل جماعي لعدد من أساتذة علم الاجتماع العرب، وهو في مجمله شهادة شكوى واعتراف بفشلٍ متعدد الأبعاد في تأسيس مدرسة مستقلة في العلوم الاجتماعية، أو حتى في إنجاز بحوث جامعية ذات قيمة أكاديمية ومستوفية للحدود الدنيا من المعايير العلمية. والاعتراف نفسه تقريباً نجده في كتاب: «البحث الاجتماعي في قضاياه ومناهجه» (المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية- القاهرة عام 2009). وفي دليل مكتبة «مؤسسة الملك عبدالعزيز بالرباط ـ المغرب»، وهو يحتوي على 100.000 مقال وكتاب جامعي، ويغطي الفترة من 1980 إلى 2004. وهو لا يشمل سوى ثلاثة بلدان مغاربية: «تونس، والجزائر، والمغرب». ونجد الاعتراف نفسه كذلك في كتاب: «الإنتاج العربي في علم الاجتماع» (مركز البحوث والدراسات الاجتماعية في كلية الآداب - جامعة القاهرة عام 2001). القاسم المشترك الأعظم بين تلك المراجعات والمسوح هو أن العلوم الاجتماعية بمختلف فروعها تكاد تكون بلا وظيفة بمقياس التقدم الحضاري العام. وأسباب هذه الحال المؤسفة متعددةٌ، وعللها مزمنةٌ. وترجع في أغلبها إلى ظروف النشأة الحديثة للعلوم الاجتماعية في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري/ الربع الأول من العشرين، وانتقالها بمناهجها ومقرراتها ومسائلها، وحتى أساتذتها أحياناً، من الجامعات الأوروبية والأميركية، إلى جامعات ومجتمعات الأمة الإسلامية بعامة، وجامعات بلادنا العربية بخاصة. مركز تلك العلل هو: الانفصالُ شبه التام بين «العلوم الشرعية»، و «العلوم الاجتماعية والإنسانية». وهذا الانفصال نتيجة لانفصال أعمق وأشد خطراً وقع بين القيم الدينية/الإسلامية وبين تلك العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة. وقد حملتْ هذه العلومُ منذ نشأتها بذور انفصالها عن القيم الاجتماعية، ومن ثم فقدت منذ نشأتها أيضاً أهم مقومات فاعليتها ووظيفيتها في المساهمة في إنجاز مهمات التقدم الاجتماعي العام. ومن أوضح صور هذا الانفصال: الغياب شبه التام لنظريات موروثة عن منهجيات التأسيس الحديث للعلوم الاجتماعية والإنسانية، ويشمل هذا الغياب أطروحات العلامة ابن خلدون مؤسس علم العمران، إذ يكاد يكون حضوره في كتب علم الاجتماع الحديث (مثلاً) في جامعاتنا حضوراً شكلياً، أو بروتوكولياً لرفع العتب لا أَكثر. هذا إضافة إلى غياب تام ومطبق لنظريات أخرى نمت في فروع علمية تراثية أخرى وذات صلة وثيقة بأصول العمران والاجتماع الإنساني، وليس الإسلامي فحسب، مثل: نظرية «المقاصد العامة للشريعة»، ونظرية «المصلحة»، ونظرية «الإجماع»، ونظرية «الشورى»، وغيرها من النظريات التي يتعذر فهم كثير من قضايا مجتمعاتنا المعاصرة إلا في ضوئها. كانت وقائع التأسيس الحديث للعلوم الاجتماعية والإنسانية في مجتمعات الأمة الإسلامية بدأت قبلَ أكثر من مئة عام تقريباً من طريق الترجمة والنقل المباشر من العلوم الاجتماعية والإنسانية الغربية ومدارسها وفلسفاتها المختلفة، مع التجاهل شبه التام لأصول البحوث الاجتماعية والإنسانية التي انتهجها علماء العمران في الحضارة الإسلامية عبر مراحلها التاريخية المختلفة. وظلت منهجية الترجمة والنقل سائدة منذ ذلك الحين في ما خلا استثناءات لا يُعتد بها. وكانت الحجة الرئيسية التي استند إليها الرواد الأوائل في الترجمة والنقل هي أن مرحلة النشأة أو «البداية» تفرضُ الإلمام بما وصل إليه الآخرون المتقدمون، وأن هذه المرحلة تقتضي التعلم منهم حتى يمكن الوصول إلى أفضل ما وصلوا إليه، وساعتها يمكننا أن ننفطم عنهم ونبني علومنا الاجتماعية المستقلة. ووفق تلك الخطة/الحجة، فإن الاستقلال في مسار علومنا الاجتماعية والإنسانية الحديثة كان مرهوناً بضرورات النقل والترجمة في مرحلة النشأة والتأسيس، وضرورات الانفتاح والاقتباس والتفاعل مع المدارس المتطورة للعلم الاجتماعي في المجتمعات الأخرى. وكان من المفترض أن تفقدَ تلك الحجة قوتَها بعد عقد أو عقدين من الزمان. وهي مدة لا بأس بها كي تبلغ عملية الترجمة والنقل والتفاعل أهدافها. ولكن الذي حدث هو أن تلك الحجة ازدادت قوة على قوتها بمرور الوقت. ولم يبطل مفعولها في أي وقت. ولا تزال سلاحاً يشهر في وجه كل من يدعو إلى الانعتاق من ربقة التقليد والاستلاب شبه التام لمنظومة العلوم الاجتماعية والإنسانية الغربية بمناهجها وأدواتها ومواضيعها، وحتى ببرامجها وأولوياتها البحثية. ولا يزال هذا الأمرُ يحدث على رغم الإقرار النظري الذي لا يختلف عليه أحد بأن ظروف مجتمعاتنا ومشكلاتها، ومن ثم أولوياتها، تختلف اختلافاً كبيراً عن مثيلاتها في خبرة المجتمعات الغربية التي أنتجت لنفسها علوماً اجتماعية فاعلة، ووظيفية، وإيجابية، وذات دور لا يمكن إنكاره في الأخذ بيدها على طريق التقدم والتنمية والنهضة الشاملة. واليوم، لا يمكن تخيل حال التقدم الغربي من دون علومه الاجتماعية ـ إلى جانب علومه الأخرى طبعاً. يمكننا تسليط الضوء على عدد من أهم معضلات النشأة الحديثة للعلوم الاجتماعية في مجتمعات أمتنا، قبل قرن من الزمان. وبتأمل كل معضلة منها تأملاً نقدياً سيتضح عمق «أزمة» العلوم الاجتماعية «الحديثة»، و «لا وظيفيتها» في مجتمعات عالمنا العربي بخاصة. أول هذه المعضلات هو: وفود العلوم الاجتماعية الحديثة على يد نخبة من الأكاديميين الذين تلقوا تعليمهم في معاهد وجامعات أوروبية. وكان أغلبهم من الجيل الثالث من أجيال المثقفين الذين اتصلوا بحداثة الغرب ومدارسه على ما رصدته نازك سابا يارد في كتابها القيم عن الرحالين العرب وحضارة الغرب. وكان معنى هذا الوفود هو أن العلوم الاجتماعية التي باشرتها المعاهد والجامعات في التاريخ الحديث لمجتمعاتنا لم تنشأ من داخلها، ولم تمتلك منذ البداية الأولى لها أدوات منهجية خاصة بها، ولا معايير قيمية مستمدة من مرجعيتها المجتمعية، وإنما اعتمدت على آليات النقل والترجمة والتقليد. وهذا ما اعترف به عدد من كبار أساتذة علم الاجتماع ومنهم مثلاً: عبدالباسط عبدالمعطي، أستاذ الاجتماع في جامعة عين شمس، ومصطفى عمر التير، أستاذ الاجتماع في جامعة طرابلس ورئيس سابق للجمعية العربية لعلم الاجتماع (تأسست عام 1985!)، ومحمد جسوس أستاذ الاجتماع في جامعة محمد الخامس، ومن قبلهم علي الوردي أستاذ الاجتماع الأشهر في جامعة بغداد رحمهم الله جميعاً. وكانت المعضلة الثانية هي أن أولئك الناقلين الأوائل ومن تبعهم ليست لديهم دراية بأصول علم العمران في الحضارة الإسلامية، ولا بمنهجيات البحث فيه ولا في بقية «العلوم الشرعية» التي تتداخل معها، وفي اللحظة ذاتها لم يكن العلماءُ «الشرعيون» معنيين بتجديد مناهج وأدوات البحث في علومهم الموروثة والقيم الحاكمة لها، ومن ثم لم تظهر أيةُ جهودٍ ذات قيمة تستهدف إحياء أو تطوير المناهج الشرعية في التعامل مع القضايا والمواضيع التي بدأ حَمَلةُ العلوم الاجتماعية الحديثة يهتمون بها، ويذهبون بها بعيداً، أو تذهب هي بهم بعيداً من معطيات مجتمعاتنا وتحدياتها. ومن هناك ظهرت معضلة ثالثة وهي: انفصال العلوم الوافدة من الحداثة الغربية عن العلوم الموروثة من الحضارة الإسلامية وعمرانها، بمناهجها وقيمها ومواضيعها وقضاياها، وعن المقاصد التي تسعى إليها. وأضحت لدينا علوم اجتماعية حديثة ولكنها تابعة وغير وظيفية من المنظور الاجتماعي، كما أضحت لدينا علوم شرعية مستقلة وأصيلة ولكنها منعزلة وجامدة وغير فاعلة في التطور الاجتماعي العام. وبعد مرور ما يقرب من قرن على نشأة العلوم الاجتماعية الحديثة على هذا النحو الذي وصفناه، ثَبَتَ أنها لم تساهم مساهمة كبيرة في تقدم أو نهضة المجتمعات العربية والإسلامية، وأن حصيلة ما أنتجه أساتذة العلوم الاجتماعية، بمختلف فروعها، لم يَعْدُ كونه مجرد «ترجمة من أجل التدريس»، أو «تدريس من أجل الترجمة» بتعبير عبدالباسط عبدالمعطي. واتضح أنهم كانوا في أغلبهم وسطاء مترجمين، ولم يكونوا علماء عضويين. ولم تظهر لواحد منهم نظرية اجتماعية أو نفسية أو سياسية أو اقتصادية تنسب إليه هو بالأصالة عن نفسه، أو تُعزى إلى اجتهاده الذاتي، اللهم إلا القليل النادر الذي يمكن إحصاؤه وحصره في أعداد قليلة. و «النادر لا حكم له» كما يقول الأصوليون. لقد باتَ من الشائع (الخطأ) أن لا سبيل إلى الجمع بأصول علم العمران في الحضارة الإسلامية، والعلوم الاجتماعية الحديثة. وأن أي جهد يبذل في سبيل البحث عن روابط الوصل بينهما لا جدوى منه. وهذه الرؤية تكرس حال التبعية التي تعاني منها علومنا الاجتماعية الحديثة، وتجعلها في موقع الدفاع الدائم عن «التلمذة الأبدية» للمدارس الغربية المتقدمة، والهجوم الدائم على أي محاولة للتحرر وتجديد علوم العمران وتطوير منهجياته بمرجعية حضارية أصيلة. والتحدي اليوم هو: كيف نجمع بين المتخصصين في العلوم الاجتماعية والمتخصصين في العلوم الشرعية، وعلى أي أساس يتعين الجمع بينهم؟ ثم كيف نحقق التواصل الحضاري الفاعل والإيجابي بين موروثات علوم العمران في الحضارة الإسلامية وعلوم التحديث والتقدم في الحضارة المعاصرة من دون أن نفقد قدرتنا على «تعريف ذاتنا بذاتنا» على حد قول ابن سينا؟