يتكرر الحديث عن الوعي عند الفرد، وذات يوم دار حوار عن القراءة وتأثيرها في الوعي، كان في الحوار من ينحاز إلى أن الوعي لا يناله إلا من يقرأ كتبا أكثر، وانحاز طرف آخر، كنت وما أزال مع رأيهم، إلى أن كمية القراءة لا تشكل الوعي، بل ما يؤثر في الوعي ويشكله عوامل أخرى، منها التربية والتوجيه والوراثة، فقد نجد في الطفل الصغير وعيا ونباهة لا تكون عند والديه أو إخوته الأكبر! بل قد نلمح الوعي والنباهة في الطفل، تنطق عيناه قبل أن يتكلم لسانه! في كتاب "تجاربهم في القراءة" كمثال تتشابه أسماء الكتب التي يذكرها المشاركون بتجاربهم في الكتاب، وهم أساتذة ونقاد وأدباء، تحدثوا عن تجاربهم في أوراق، قدمت في مكتبة الملك عبدالعزيز قبل سنوات؛ اللافت أنه بينما تتكرر الكتب أو أغلبها لا تتشابه تجربة وأفكار المشاركين في التعبير لاحقا، ولا في الموقف من الإبداع حداثته من قدمه، ولا في نوعية المقروء لاحقا. القراءة كفعل اجتماعي تختلف عن قراءة الكتب، وهي برأيي الأهم خاصة حين معاناة الأزمات والهزات التي تشكل حياة الإنسان. الإنسان الذي يجمع مهرا ويهدي عروسا ويقدم الذبائح لتزويج رجل بزوجة أخرى، لأن زوجته تهكمت به، ويتناقل الخبر باستبشار، ليس إلا إنسانا يهمل أهم قيمة، وهي صلاح حال الزوجين، فهو يتظاهر بمساعدة الزوج، بينما هو يمارس الانتقام من الزوج قبل الزوجة.. وما أكثر ما نسمع من يسعى لتزويج المتزوج، بل هذا الإنسان نفسه ربما لا يفعل هذا الأمر لمساعدة شاب لم يسبق له الزواج، فالمفارقة أن الأعزب قليل الحيلة لن يجد من يتكفل به! من يمارس السلوك السابق، ولو من باب التحدي، هو نفسه من يسعى لعتق رقبة قاتل ولا يساعد مريضا؛ وكأن المحتاج الحقيقي للمساعدة مزيف، ومن لا يحتاجها هو الحقيقي، فأمر رفده محسوم! قرأت رواية اللواهيب للكاتب الأستاذ تركي محمد السديري، وهي رواية سميت باسم قرية متخيلة في نجد .. تتحدث عن القرية في فترة معينة على لسان بعض شخصياتها الذين يشكلون القرية الممتدة في كل قرى الوطن التي تراجعت مساحتها وغادرها أهلها نازحين مع بداية الطفرة باتجاه المدن التي تمددت مساحتها وضاق أفقها. اللافت في الرواية أنها توثق للقراء المرحلة المسماة بالطفرة، وما سبقها من دخول الراديو والتلفزيون، والمواقف المتباينة حينا والحائرة أحيانا، وصراع الراغبين للوعي مع أعداء كل جديد تأتي به الحضارة! في اللواهيب يفر الإنسان من القرية، لكنه لا يفر من حنينه، ويتذكر تفاصيل كل الساعات واللحظات التي عاشها. الكاتب يظهر بخبرته المعاشة وتخصصه كمستشار اقتصادي ووعيه فيفسر من خلال شخوص الرواية ما قاد إليه التطرف والعنف من انغلاق اللواهيب القرية على صراعاتها حتى زاد طريق العودة إليها بعدا، وأصبح محفوفا بالماضي المتزاحم بالأحداث. الرواية قراءة للأمس الذي سبق اليوم، وتحتاج الرواية إلى قراءة ناقدة، ولكن هذه الإلماحة السريعة لتأكيد أننا نحتاج إلى قراءة التحولات التي حدثت وتحدث، وما رافقها من تحويل المسار أو الرفض أو القبول لبعض أو كثير من الأفكار، وكيف تحولت الشيلات لفن مقبول يتمايل عليه الكبار والصغار رغم نشازها، ورفض السامري، وأقصيت الأصوات الجميلة، بل كيف ضيقت منافذ طبيعية للحياة واستبدلت بالأخطر. قراءة تحولات المجتمع العربي عامة اليوم والمحلي خاصة محور يجب الاحتفاء به فنيا وأدبيا لاستكناه سبب ما حدث في الماضي من تحول وتجنب السلبي والاستفادة من الإيجابي. ألسنا اليوم نحاكي نجاح الآخرين عندما نريد أن نصل إلى النجاح؟ بالتالي يجب أن نتجنب تكرار الوقوع في المزالق التي قادت إلى ما لا نرتضيه من خروج نماذج شاذة مشوهة تفتقد الصدق حتى مع نفسها لسبب تجهله.