في عصور سالفة كان يسود قمع المرأة.. كائن مهمش، محجوز خلف أروقة الحريم، وداخل الحجرات المفضية إلي الصمت، ووحدة الكائن. وبالرغم من كل تلك الإجراءات القاسية، كانت المرأة تحكي، وتبدع الشعر من وراء ستار، وتطلق الألحان بصوتها البديع، ومن ثم تضع طاقتها الروحية في الشعر، وقص القصص، والتجول عبر الليالي لتخرج حكاياتها منارة، صانعة كتاب الكتب "الف ليلة وليلة" كتاب السرد المعجز!! وسمعنا عبر فيض من المعرفة، في صدر الإسلام، عن "سيرين" و"عزة الميلاء" و"جميلة" و"سلامة" و"علية بنت المهدي" و"تيم الهاشمية" و"غريب وفي أيام الأندلس" ولادة بنت المستكفي"، وفي عصرنا الحديث قدمت المرأة ما لم يقدر عليه الكثير من الرجال!! والمرأة عبر التاريخ كون ثري من العطاء والحياة الإنسانية. والدين الحنيف يحدد علاقته بالمرأة، ويضفي على شرعية دورها في القيمة والفعل ومشاركة الرجل في تيسير أمور الدنيا الكثير من القداسة والتمجيد. فهو يحدد علاقته بالمرأة وفق منهج العدل، وفي حق الإنسان أن يكون حراً، فهي في عرفه الأم والأخت والزوجة، وهي من تحمل مع الرجل أعباء الحياة، والتصدي لمصاعبها!! وكم من آيات، وأحاديث شريفة تذكر المرأة والرجل في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وهما مستخلفان في الأرض، متساويان في التكريم، والإجلال عند الله سبحانه، وهي السكن، ومصدر المودة، والحفاظ علي الحياة!! يأتيني صوتها بالحكمة، حافلا بخبرة الفصول، تضرب بالمثال والدلالة والرمز، وأسمع صدى صوتها القديم يتردد على سمع الغلام الأمثال والحكم، في الشهور القديمة: في بؤونة الحجر ينشق الحر ويتوفر العنب والبرقوق، وبرمهات تطيب المحاصيل، وفي الربيع يطلب الحيوان العشار، وفي شهر طوبة نغسل ملابسنا محبة وشفاعة للنبي عيسي، وحضور الشعري اليمانية علامة على كسوف القمر. أندهش عندما كنت أراها واقفة تواجه الشمس، ثم تنظر في عيني وتقول الفعل الحسن يسكن القلب الحسن، وكانت تشير ناحيتي وتقول لصاحباتها: هذا لبني يمشي علي الأرض!! كانت أماً فخمة، تدق الأرض فتستمع لوسوسة الخلاخيل، تسبقها رائحة الحقول، ويضوي حول عنقها عقد من الكهرمان!! أطلب المزيد من الكلام والحكايات، وهي تفيض علي بالنادر والجميل، اذا رضيت عن أفعالي يخرج صوتها المجلجل: يجعل في وجهك جوهرة وفي لسانك سكرة يا ابن بطني..وإذا شاكستها بأفعال تغضبها، وأثرت دماءها صرخت في وجهي: يجعل الأخضر في أيدك ناشف، ويخيب رجاءك ربنا، ويكره فيك خلقه، والله ما أنت نافع وستقضي حياتك مع كلاب السكك. أحزن وأخشى من الدعاء علي، عندما ترى دموعي يرتجف صوتها وتخاف من لعناتها فتجذبني نحوها وتأخذ بخاطري. أمهات كانت لهن في الحياة شأن!! سلالة من نسوة فذة، من جنس عجيب..ملأت ارض مصر بالتربية الحسنة، وساهمت في إيقاظ وطن يحاول الخروج من ظلام الجهل إلي نور المعارف، درس من درس، وأتقن الصنعة من أتقن، وفي الحقول والأسواق فيض من البركة، والبيوت عمرانه بالستر!! يبقى السؤال: ما الذي يجري الآن أمام عيوننا علي أرض مصر؟! مصر التي لم تعرف العنف، وعاش أهلها يلوذون إلى الستر ورضا الخالق، والحمد على القليل!! اقاوم الحزن وأنا أري ما يجري للمرأة المصرية في ذلك الزمن الجائر، في اللحظات القائمة على الاحتمالات، اللحظات التي تختلط فيها البدايات بالنهايات، ويسود القمع، ويفرض شرعيته الكاذبة !! نسوة فاضلات، غرر بهن، يدفعهن الباطل أول صفوف المظاهرات والاحتجاجات مثل حائط الصد، هم في الأمام والرجال في الخلف والهتاف مدوٍ، والرصاص ينطلق من فوهات البنادق الغادرة فيحصد أرواح ثلاث نسوة أبرياء، جاءوا بحشو ضمائرهم بالباطل دفاعا عن الحق والشرعية كما أفهموهن!! يقول بيان النائب العام: إن تقرير الطب الشرعي المبدئي يري في قتل النساء الثلاث في المظاهرات بطلقات نارية في اشتباكات وقعت بين المؤيدين والمعارضين للرئيس المخلوع وأنهن قتلن من الخلف!! أي هوان!! وأي استنكار لفعل الغدر!! أنا لم أعد أعي ما يجري!! كأن الأمهات يحدقن من زمن سالف، طالبات العون والنجاة!!