كمال بالهادي تنحى الخطابات السياسية في عدة دول منحى قومياً متطرفاً في أغلب الأحيان. ويبدو أنّ مفهوم الأمة القوية، قد عاد ليطفو على السطح، في ظل حملات انتخابية شرسة، وفي ظلّ تنامي الحروب الاقتصادية والتجارية الباردة، بين القوى الاقتصادية الكبرى، فهل ستكون العشرية الجديدة، شبيهة بمثيلتها في القرن المنقضي، وتعلو إلى السطح، حروب ونزاعات قومية، قد تدمّر العالم؟ في واقع الأمر، الحديث عن هكذا متغيرات، وصراعات، يستوجب العودة إلى التاريخ والاستفادة من عبره. فالحربان العالميتان الكبيرتان، سبقتهما أزمات وصراعات صامتة بين القوى الكبرى آنذاك، ما مهد لنشوب صراعات مدمرة، انتهت باستعمال السلاح النووي للمرة الأولى في تاريخ البشرية. زعماء العالم، الذين يقودون الدول العظمى يتحدثون بنفس اللهجة تقريباً. الرئيس الأمريكي الجديد، كرر في خطاب التنصيب، أنه سيقود الولايات المتحدة إلى إعادة مجدها وعظمتها وقوتها. وشدد في خطابه على أنه سيعمل بشعار أمريكا أولاً- أمريكا أخيراً. وبقطع النظر عن صدقية الخطاب ومدى تطبيقه على أرض الواقع، فإن الوقائع تثبت أن ترامب بنى حملته الانتخابية على هذا الشعار، وقد استطاع بنزعته القومية المتطرفة أن يغذي الشعور القومي في الولايات المتحدة، وأن يقنع الناخبين بأن لا مستقبل لهم إلا في ظل أمريكا قوية. الرئيس الروسي الذي يحكم بلاده منذ سنوات، لا يفعل شيئاً سوى أنه يغذي الشعور القومي الروسي، ويرفع المعنويات، بحديثه الدائم عن روسيا القوية. الصين وفي مؤتمر الحزب الشيوعي الأخير، تحدث قادتها، بنبرتهم الهادئة، والصارمة أيضاً، على أن كل الفرص متاحة من أجل إعادة العظمة للصين، لتتصدر المشهد العالمي والاقتصادي، وهم يعملون بنسق حثيث على تغيير القوانين وعلى حث السياسات التي تجعل من الصين الإمبراطورية العملاقة. ولعل وصول أول قطار بضائع من بكين إلى لندن في الأيام الماضية، ضمن خطة إعادة إحياء طريق الحرير القديم الذي كان رمزاً لقوة الصين وعظمتها. الأوروبيون استلهموا هذه القناعة ويبدو أن الانتخابات الجديدة في عدة دول، باتت مبنية على خطاب الأمة القوية، الذي بدأ يطفو على السطح، خاصة أن الأوروبيين الذين مروا بأزمة اقتصادية خانقة، أصبحوا على يقين بأن بقية الأمم قد سبقتهم أشواطاً في التقدم التكنولوجي والاقتصادي، وما عليهم سوى العمل على اللحاق بركب الأمم القوية. إنّ منطق الأمة القوية، يفترض في التحليل السياسي، أمماً أخرى ضعيفة. فتدافع الأمم القوية يعيدنا بالضرورة إلى منطق صراع القوميات الذي نشب في النصف الأول من القرن العشرين، وذهب ضحيته الملايين من الأبرياء، الذين كانت أممهم ضعيفة. والسؤال الذي يطرح في هذا المستوى، هل أن شعار الأمة القوية هو مجرد شعار للاستهلاك الانتخابي، يتم توظيفه لجذب القوى الرافضة للأنظمة السياسية التقليدية والتي أثبتت فشلها في حل المعضلات الاقتصادية والاجتماعية، أم هو مؤشر على انتقال عالمنا إلى مرحلة صراع القوميات في هذا العالم الذي يزداد تشظّياً؟ التحليل المنطقي أن تهافت الدول على استعادة قوتها، يعني منطقياً، صراعاً مع بقية القوى التي تسعى بدورها إلى استعادة القوة المفقودة، ولكن للصراع حدود، وخطوط حمراء، تقبل بتنازل هذا الطرف أو ذاك، من أجل تجنب الصراع الدموي المميت. وقد نجحت القوى العالمية في إدارة هذه اللعبة والتحكم في محاور صراعاتها، ما جنبها الصراع المباشر، وبقيت الاحتكاكات قائمة فيما سمّي بدول الأطراف. ولكن الوضع الدولي يزداد غموضاً بعد وصول دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة. فمع كل خطاب جديد ترتعد عواصم القرار الدولي من هذا الرجل الذي دخل إلى البيت الأبيض. فخطابه السياسي، ينم عن مرحلة جديدة، قد تكون مرحلة صراع حقيقي مع الأطراف الدولية، والمراقبون ينتظرون الأفعال التي ستحدد ليس فقط مصير الولايات المتحدة، بل العالم. قد نعيش فترات من الخطابات المتحمسة، وقد يرتفع منسوب القوميات المتطرفة، والمؤكد أن العالم الذي يوصف بأنه قرية صغيرة، هو في الحقيقة غير ذلك، لأن الحواجز الجمركية والأسوار الإلكترونية تزيد من حالة التشظي والانفصال بين الشعوب، وكل هذه تعتبر من العناصر المغذية للصراعات بين الشعوب. ولكن من المستبعد أن يعاد سيناريو حروب النصف الأول من القرن العشرين. belhedi18@gmail.com