أكتب هذا الأسبوع من برلين، حيث شاركت في منتدى الاقتصاد والأعمال بين مجلس التعاون وألمانيا، الذي نظمه مركز الخليج للأبحاث وغرفة التجارة والصناعة العربية الألمانية، وشارك فيه كبار المسؤولين في عدد من الجهات المختصة الألمانية والخليجية، من الجانبين الحكومي والخاص. وعُقدت لقاءات جانبية مهمة على هامش المنتدى، بما في ذلك لقاء مع وزير الخارجية الألماني المخضرم فرانك-والتر ستاينماير، الذي عاد لإدارة دفة الوزارة مؤخراً بعد غياب دام عدة سنوات، وكان وزيراً للخارجية أربع سنوات (2005-2009) خلال العهد الأول للمستشارة الألمانية أنجلا مركل، كما كان نائباً لها عامين (2007-2009)، وفي ديسمبر الماضي استُدعي لتولي حقيبة الخارجية مرة أخرى. وبالإضافة إلى منصبه الوزاري، يرأس ستاينماير الحزب الاشتراكي الديموقراطي، الشريك في اتئلاف الحكومة الذي ترأسه ميركل، وكان له دائماً نفوذ وراء كواليس السياسة الألمانية، منذ عهد رئيس الحزب ومستشار ألمانيا السابق جيرهارد شريدر. ومن أهم ما طُرح في منتدى برلين حقيقة، أن لدى ألمانيا ومجلس التعاون إمكانات غير محدودة للشراكة، ولكنها غير مستغلة بما يتناسب مع وزن ودور كل منهما في منطقته، بالإضافة إلى دورهما المتنامي في السياسة الدولية والاقتصاد العالمي. تاريخياً، ظل تأثير ألمانيا في منطقتنا محدوداً، متركزاً على المصالح الاقتصادية، مقارنة بالدول الغربية الأخرى، المهتمة بالمنطقة اقتصادياً واستراتيجياً. ويبدو أن هذا الدور في طريقه للتغيير، ففي فبراير الماضي، أشار المسؤولون الألمان إلى عزم ألمانيا على اتخاذ موقف أكثر بروزاً. وقال ستاينماير نفسُه في مؤتمر الأمن الذي عُقد في ميونيخ حينها: "إن ألمانيا أكبر من أن تظل على الهامش وتكتفي بالتعليق على السياسات الدولية". وفي منطقة الخليج، تبدو ألمانيا حريصة على تغيير دورها التقليدي، بحيث يكون لها حضور استراتيجي، كما ترغب في استعادة دورها الاقتصادي، فعلى مدى العقدين الماضيين، فقدت ألمانيا حصتها من السوق الخليجية، وحلت محلها الصين. ففي حين ارتفع حجم التجارة بين مجلس التعاون وألمانيا أربعة أضعاف، انخفضت حصة ألمانيا من السوق. ففي عام 1992، بلغ حجم التبادل التجاري بينهما نحو ستة مليارات دولار، أو ما يعادل وقتها (7.5) بالمئة من إجمالي تجارة دول المجلس، وفي عام 2012، ارتفع حجم التجارة إلى (29) ملياراً، ولكن حصتها من السوق انخفضت إلى (2) بالمئة. وبالمقابل، خلال الفترة نفسها، ارتفع حجم التجارة الخليجية-الصينية من (2.5) مليار دولار في عام 1992، إلى (151) ملياراً في 2012، أي بزيادة (60) ضعفاً، وارتفعت حصة الصين في تجارة الخليج من (2) بالمئة إلى أكثر من (10) بالمئة، أي خمسة أضعاف حصة ألمانيا. ويبدو حجم التجارة مع ألمانيا هزيلاً، ليس فقط مقارنة بالصين، بل مقارنة بالهند وكوريا واليابان وأميركا، بل إن تجارة دول المجلس مع تايلاند، وهو اقتصاد صغير نسبياً، فاقت في حجمها التبادل التجاري مع ألمانيا، ولا يتواءم حجم التبادل التجاري بين ألمانيا والخليج مع حجم اقتصاديهما، الذي يتجاوز خمسة تريليونات دولار، ولا مع معدلات النمو العالية فيهما، حيث نجحا في تجنُّب معظم آثار الأزمة المالية العالمية والركود الاقتصادي الذي ما زال يخيّم على معظم دول العالم. وبالإضافة إلى صغر حجم التبادل التجاري بين الخليج وألمانيا، فإن ثمة عدم توازن من نوع آخر. فالتجارة معظمها في اتجاه واحد، حيث تشكل واردات دول المجلس من السلع الألمانية نحو (90) بالمئة من إجمالي حجم التجارة. وهناك أسباب عديدة لسيطرة الصادرات الألمانية على الميزان التجاري مع دول المجلس؛ ففي حين أن صادرات دول المجلس مركزة في الطاقة والكيماويات والبتروكيماويات، فإن صادرات ألمانيا منوعة، بما في ذلك السيارات والآليات، والكيماويات، وأجهزة الكومبيوتر، والأجهزة الكهربائية والإلكترونية، والأدوية، والأغذية، والملبوسات، وذلك بالإضافة إلى تزايد حجم المبيعات العسكرية لعدد من دول المجلس. ومع أن ألمانيا من أكبر الدول المصدرة، إلا أنها عملت على تطبيق أسلوب حمائي تجاه البتروكيماويات الخليجية، حد من صادرات دول المجلس إليها، في الوقت الذي تضاعفت فيه الواردات الخليجية من ألمانيا أربعة أضعاف خلال العقد الماضي. وعلى سبيل المثال، فقد اتخذت جمعيات الصناعيين الألمانية مواقف أسهمت في عرقلة المفاوضات التجارية بين مجلس التعاون والاتحاد الأوروبي، وتعد تلك الجمعيات من أكثر جمعيات الضغط نفوذاً في بروكسل، حيث تحالفت مع منتجي البتروكيماويات في الدول الأوروبية الأخرى، لوضع عقبة تلو الأخرى لمنع إبرام اتفاق تجاري بين الجانبين. وجاء آخر هذه العقبات في ثوب لغة مقترحة حول "رسوم الصادرات"، حيث يصر الجانب الأوروبي على وضع قيود على حق دول المجلس في فرض تلك الرسوم، دون اعتبار لحقيقة أن منظمة التجارة العالمية تسمح بفرضها دون قيود. وكما هو معتاد في سياسات الحماية التجارية، فإن مصلحة الأغلبية – وهم المستهلكون الألمان والأوروبيون – يتم التضحية بها لمصلحة منتجين غير قادرين على المنافسة، فلو سُمح للبتروكيماويات الخليجية بالنفاذ للأسواق الأوروبية دون قيود، لأدى ذلك إلى تخفيض الأسعار، وتحقيق رفاهية للمواطن، ورفع مستوى الكفاءة الاقتصادية. وبدلاً من التمسك بسياسات الحماية، التي تحمي طرفاً على حساب الآخر (أو ما يسمى بالمحصلة الصفرية)، فإن المنتجين الألمان يستطيعون الدخول في شراكات مجزية يكسب منها الطرفان الألماني والخليجي، عن طريق زيادة استثماراتهما المشتركة. ففي الوقت الذي تسعى فيه ألمانيا إلى تعزيز دورها الدولي، فإن الشراكة مع دول المجلس تبدو خياراً منطقياً، اقتصادياً واستراتيجياً، ولكن ذلك يتطلب التخلي عن السياسات الحمائية التي تجاوزها الزمن.