×
محافظة المنطقة الشرقية

شركة الأحساء و الحاجة لإعادة هيكلة شاملة !

صورة الخبر

كنت أمشي في طرقات مدينة مانشستر الإنجليزية على غير هدى فهذه هي المرة الأولى التي أزور فيها وسط المدينة وإن كنت زرت مانشستر مرتين من قبل ولكن في رحلات عمل "مكوكية"، والحقيقة أن المدينة لم تفاجئني فكل المدن الانجليزية متشابهة وتحمل شخصية متقاربة وتستطيع أن تشعر بتأثير النظام الموحد، الصارم على عمارة المدينة ومكوناتها الحضرية. هذه الميزة هي التي تجعلني دائما أشعر بغصة في الحلق عندما أتذكر المدينة السعودية والفوضى العمرانية والبصرية التي تعيشها، فالمسألة تكمن في الإدارة وتطبيق النظام بصرامة ولكن رغم تشابه المدن الانجليزية فإن لكل مدينة طعمها الخاص وثقافتها التي تميزها وتاريخها الإجتماعي الذي تمت المحافظة عليه عبر الزمن. ولكني تعلمت هذه المرة أن ما يصنع المدينة، بجانب الثقافة المجتمعية، هو اقتصادها وآليات الانتاج التي تشكل نمط الحياة وأسلوب التعامل مع المجال المديني، أياً كان. بالنسبة لي أعتقد ان المدينة السعودية يمكن أن تحظى بفرصة مستقبلية تستعيد بها وهجها خصوصا وأن مدننا قائمة على التنوع العميق في إطار ثقافي متقارب وهذا يجعلنا نقدم هذه المدن كمجالات متعددة للحياة، ولكن هل نستطيع ذلك وسط هذه الضبابية الادارية التي تكرس الفوضى بدلا من أن تستغل الفرص. الخصخصة إذا ما أحسن إدارتها هي التي ترفع من مستوى الخدمات وتقلل التكاليف خصوصا عندما تكون مبنية على المنافسة وبعيدة عن الاحتكار وعليها رقابة حكومية صارمة، في هذه الحالة فقط يمكن أن تنعكس إيجابا على حياة المجتمع وأنا أسير في أحد الطرقات "المانشسترية" أوقفني رجل يوزع أوراقاً على المارة، وهذه الظاهرة متفشية في المدن الانجليزية خصوصا لغرض الإعلان، وكانت الورقة عبارة عن "كرت" مكتوب عليه "الملكية العامة لسككنا الحديدية" وذكر فيها مساوئ خصخصة القطارات التي يبدو أن الحكومة البريطانية بدأت فيها منذ فترة ومستمرة في انجازها، وأكد المنشور على أن الخصخصة هي دعوة للربح على حساب الجودة، وتذكرت الدعوات المتزايدة للخصخصة عندنا، فكل فشل لمشروع يربط عادة بالملكية العامة غير المبالية، وأنا واحد من الناس الذين يرون ذلك، لكنني صرت أفكر وأنا أقرأ هذا المنشور بأن الحكومة التي تملك، عليها دور كبير اتجاه المجتمع، وإن خصخصة الخدمات العامة قد تضر بالمواطن البسيط، لكن في نفس الوقت هناك مشكلة كبيرة في إدارة هذه الخدمات فهي مصدر إنفاق كبير ولا تدار بالشكل الذي يرضي الناس. إذن ما الحل؟ ما الذي يجب أن نعمله من أجل الخروج من هذا المأزق، هل نمشي في طريق الخصخصة أم نعزز من الملكيات العامة للخدمات؟ العالم مع "الخصخصة" حتى وإن كان هناك قطاع من الناس يرون أن هذه الخصخصة قد تسلبهم حقهم في المال العام، الدراسات تؤكد ذلك وتبين أنه لا يمكن لأي خدمة أن تستمر للأبد طالما أنها مصدر إنفاق دون عوائد، حتى لو كانت هذه العوائد محدودة، ومن المعروف أن هناك قطاعات خدمات عديدة ممكن أن تكون مصدر دخل لو أحسن إدارتها، خصوصا وأن الحكومة عادة ما تساهم بدورها في دعم هذه القطاعات بدلا من أن تتولاها بالكامل وتكون عبئا عليها ماليا وإداريا ولا تحقق هذه القطاعات النجاح المطلوب. إذن نحن أمام تجاذبات مناهضة ومؤيدة للخصخصة، التي يبدو أنها عبارة "غامضة" بعض الشيء، لأن الانطباع العام عنها هو انتقال الملكيات العامة إلى الملكيات الخاصة، وهذا يعني بالنسبة للمواطن أنه سيخسر جزءاً مما يملك للتجار ورجال الاعمال الذين يراهم جشعين ولم يساهموا في خدمة مجتمعاتهم، بل أنهم دائما ما يستغلون الظروف ويضاعفون ارباحهم على حساب المصلحة العامة، فكيف يمكن أن يثق فيهم ويسمح لهم بتملك ما كان يعتقد أنه وأبناؤه يملكونه، وما الذي يضمن له أن هؤلاء لن يعاودوا الكَرَّة ويستغلوا الظروف مرة أخرى ويجعلوا من الخدمات التي تخدم المواطن عبئا ماليا كبيرا عليه في المستقبل دون أن تتحسن حالة هذه الخدمات. هذه الأسئلة المشروعة أساسية في ظل فشل كل مشاريع الخصخصة تقريبا، وفي ظل الحالة الصعبة التي تعيشها قطاعات الخدمات العامة، لكن بالنسبة للناس، وهذا ليس فقط عندنا بل في كل مكان في العالم، أن تملك الحكومة هذه القطاعات أفضل بكثير من أن يتحكم فيها بعض التجار، وهذا ما كان يقوله "منشور مانشستر" الذي يعبر عن مخاوف قطاع كبير من المجتمع الذي يستفيد من هذه الخدمات وليس لديه خيارات كثيرة، وفقده لهذه الخدمات "المجانية" يعني مزيدا من المعاناة في الحياة. من هذه الخدمات المهمة التي تمس حياة الناس مباشرة بعد الصحة والتعليم هي الخدمات المدينية، وهي خدمات تؤثر بشكل كبير على حياة الناس ورفاهيتهم، أنها خدمات تملك وتدار من قبل مؤسسات حكومية عدة، وتصنع المجال المدني الذي يتفاعل معه الناس لحظيا وبشكل مباشر، والتي يظهر فيها قصور شديد في كثير من الأحيان رغم أن الحكومة تنفق عليها بسخاء، ويعتقد البعض أن هناك هدرا كبيرا تسببه هذه الخدمات للمال العام، لكنهم لا يرون حلاً آخر. أتذكّر في التسعينيات الميلادية، كانت فكرة الخصخصة مهيمنة على المناخ الاقتصادي العام، خصوصا بعد سقوط الاشتراكية السوفيتية والفشل الذريع لمؤسسات القطاع العام في أغلب دول العالم والدول العربية على وجه الخصوص التي ارتمت في حضن الاشتراكية، إلا أن الفكرة تراجعت مع الوقت ولم تعد تحظى بنفس البريق وبدأ الناس يشعرون بوطأة الخصخصة على حياتهم ومعيشتهم، وصار الناس يتخوفون من فقدهم لأبوية "الدولة" التي هي من وجهة نظرهم مسؤولة عنهم وعن حياتهم. إنها حلقة مفرغة يصعب فيها تحديد الأنسب.