أفلام المخرج الأميركي الشهيرة المليئة بالدماء، عن المافيا وعصابات الإجرام تمثل تجسيدا سينمائيا لغياب القيم الأخلاقية والروحانية، ونموذجا على انهيار المنظومة الدينية. العربأمير العمري [نُشرفي2017/01/22، العدد: 10520، ص(16)] الأب سباستياو يواجه نموذج يهوذا المخرج الأميركي الشهير مارتن سكورسيزي مشغول منذ أفلامه المبكرة، بسؤال اليقين الديني، بالبحث عن حقيقة الإيمان، وعن مغزى العيش استنادا إلى الجانب الروحاني في حياة الإنسان، ولكنه ظل مع ذلك، يعرض شخصياته المعذبة التي تتقلب بين المتعة والشقاء، لما يمكن أن تحققه من كسب كثير من المال (الحرام) لكنها تبقى رغم ذلك، تعيسة، حزينة، حائرة، تعاني من فراغ روحاني كبير. سكورسيزي الذي ينحدر من أسرة إيطالية الأصل، كاثوليكية المذهب، معروف بنظرته الأخلاقية إلى كثير ممّا يعاني منه المجتمع الأميركي. إنه على سبيل المثال، يتعاطف في فيلمه “سائق التاكسي” (1976)، مع البطل الفوضوي المتمرد الذي ينطلق بموجب دوافع أخلاقية، بعد أن يعود منكسرا من فيتنام، لكي يشنّ حربه الخاصة على كل من يراهم أسبابا لنشر التدهور السياسي والأخلاقي في نيويورك. وفي فيلمه الشهير “الإغواء الأخير للمسيح” (1987) يعبّر سكورسيزي عمّا يطلق عليه كازانتزاكي مؤلف “المسيح يصلب من جديد” (التي اقتبس عنها الفيلم)، “أكثر الأفكار إثارة للعذاب والسرور والأسى في آن، أي الصراع بين الروح والجسد، بين المادي والروحاني، صدامهما ثم التقاؤهما”. يمكن النظر إلى أفلام سكورسيزي الشهيرة المليئة بالدماء، عن المافيا وعصابات الإجرام مثل “رفاق طيبون” و”عصابات نيويورك”، باعتبارها تجسيدا سينمائيا على نحو ما، لغياب القيم الأخلاقية والروحانية، ونموذجا على انهيار المنظومة (المسيحية) وما أصاب مجتمع الوفرة المادية الصناعية، من تدهور وانحطاط، وجعل القيمة الوحيدة تتمثل في المال (يبرز هذا أيضا في فيلم “لون المال”). لهذا لم يكن غريبا أن يحلم سكورسيزي منذ سنوات بعيدة، بتحويل رواية “صمت” الصادرة عام 1966 للكاتب الياباني الكاثوليكي شوساكو إندو (1923 - 1996) إلى فيلم سينمائي اعتبره مشروع حياته. وهو الفيلم الذي تشهد الشاشات العالمية عروضه حاليا. سكورسيزي يصور المسيحيين اليابانيين في صبرهم على العذاب في صورة قريبة من صورة المسيحيين الأوائل الذين كانوا يعانون من اضطهاد الرومان، لكن أشكال التعذيب أشد فتكا وتنكيلا عمل ملحمي يطمح سكورسيزي في هذا الفيلم إلى تقديم عمل ملحمي كلاسيكي يتميز بلقطاته ومناظره البديعة المؤثرة، اللقطات العامة البعيدة، الصورة التي تغرق في بحر من الضباب وسحابات الدخان، السماء الممتدة في الأفق التي تتجمع تحت سقفها السحب البيضاء، المزارع والجبال والكهوف القديمة، البحر الممتد بأمواجه المخيفة، الليل بغموضه ومفاجآته في المشاهد الليلية، النهار القاتم بسحاباته التي تخفي أشعة الشمس، الحركة المحدودة للكاميرا التي لا تستعرض بقدر ما تحاصر الشخصية الرئيسية تراقبها من وراء الأعمدة الخشبية الضخمة التي يتكون منها ذلك الصندوق الكبير الذي تحبس في داخله شخصية الكاهن رودريغيز، النغمة الموسيقية الخافتة التي تتكرر تحت جلد الصورة، تصنع غلافا رقيقا يرتفع بك أحيانا نحو السماء. السماء هي الصمت. أما الصمت فهو “صمت الرب”، الذي يشهد كل ما ينزل من عذاب أليم، بالمؤمنين بوصاياه وتعاليمه، من المسيحيين المخلصين المتمسكين الرافضين أن يرتدّوا عن إيمانهم وأن يعلنوا توبتهم عن الوقوع في “الإيمان” المسيحي الغريب القادم من خارج التربة اليابانية التي يقال إنها مثل “مستنقع” لا تنبت فيها عقيدة. يصبر الكاهن الشاب على كل ما ينزل به من ويلات ومصائب، يقاوم بكل الطرق فكرة الشك، ناهيك عن الارتداد عن إيمانه الديني، ونبذ العقيدة كسبيل للنجاة. هناك الأوّلون، أي المسيحيون اليابانيون الذين اعتنقوا المسيحية الكاثوليكية في الماضي، وأصبحوا منذ القرن السابع عشر، يواجهون التعقب والمطاردة والقهر والتنكيل من جانب السلطات الإمبراطورية التي حظرت المسيحية وقاومت كل من يعتنقها، ومارست كل أنواع التنكيل والتعذيب من أجل دفعهم للارتداد والعودة إلى البوذية، ويتردد في الفيلم أن عددهم كان 300 ألف تمت إبادتهم أو إرغامهم على نبذ المسيحية. يقوم كاهنان برتغاليان هما سباستياو رودريغيز وفرنشيسكو غاروبي، برحلة إلى اليابان غرضها معرفة مصير معلمهما الأكبر، الأب فرييرا، الذي ذهب إلى اليابان منذ سنوات لرعاية شؤون الكنيسة الكاثوليكية هناك، لكنه لم يعد قط، وقيل إنه ربما يكون قد ارتد عن المسيحية، وتزوج امرأة يابانية وأنجب منها واندمج مع السكان هناك. هذه الرحلة التي تبدأ في عام 1639 أولا إلى ماكاو ومنها إلى الشاطئ الياباني، تذكرنا في جوهرها دون شك، برحلة البحث عن “كيرتز″ (تاجر العاج البريطاني في رواية ‘قلب الظلام’، أو الكولونيل الأميركي في فيلم ‘سفر الرؤية الآن’). يصبح رودريغيز هو البطل المنفرد للفيلم، ويبدو هنا كمعادل لصورة المسيح، في تحمله العذاب، في صبره ومثابرته واستمراره في طمأنة أتباعه بأن تضحياتهم لن تضيع هباء بل سيجدون المقابل في الجنة، عند الرب الذي ينتظرهم، لكنه رغم ذلك، ينتابه في لحظة ما الشك.. فهو لا يعرف ماذا يفعل، هل يطلب من أتباعه المثابرة والصبر بينما هو يراهم يفقدون حياتهم واحدا وراء آخر، أو يتحملون ما هو أكبر من حجم التحمل البشري، أم يطلب منهم الاستجابة لما يُطلب منهم؟ فيلم "صمت" حلم قديم عند مخرجه سكورسيزي عذاب الأب فرييرا يسلط سكورسيزي الضوء في المشهد الأول من الفيلم، على ما تعرض له الأب فرييرا (يقوم بدوره الممثل الأيرلندي ليام نيسون) في اليابان بعد أن ألقي القبض عليه مع مجموعة من أتباعه المسيحيين اليابانيين، ومورست عليهم أقصى درجات التعذيب والمتمثلة في الحرق بالنار داخل حفر مع نزول المطر الكثيف، وتصاعد الدخان ورائحة شواء الأجسام البشرية، أما فرييرا نفسه فقد تم تعليقه من قدميه بحيث يتجه رأسه إلى أسفل، ثم إنزال الرأس داخل حفرة عميقة في الأرض وإغلاق الفتحة بقطعتين من الصلب الحاد من الجانبين بحيث يصبح رأسه محصورا بقوة بين شقي الصلب الذي يشبه السكين، مما يجعله ينزف دما ينساب داخل الحفرة قطرة بعد أخرى، بهدف أن يفقد حياته تدريجيا. بعد هذا المشهد يختفي الأب فرييرا، ولا يظهر مجددا سوى في الربع الأخير من الفيلم عندما يأتي به اليابانيون من القائمين على ما يشبه “محاكم التفتيش”، لكي يحاور الأب سباستياو ويقنعه بالاستجابة لما يطلبونه منه أي الارتداد. فهو قد ارتدّ منذ زمن، تحت وطأة التعذيب. هل كان صادقا، هل أصبح تدريجيا على قناعة بقراره بعد أن عجزت السماء عن توفير الحماية له؟ إنه يخبر سباستياو بأنه بصدد وضع كتاب عن “أخطاء المسيحية”. سباستياو يشهد (مع زميله) كيف يقوم حراس محاكم التفتيش بقمع المسيحيين ومعظمهم من القرويين البؤساء الذين جاء اعتناقهم المسيحية اعتقادا بأنها ستكفل لهم الانعتاق من العبودية وحياة الفقر. عند مرحلة ما بعد تصاعد المخاطر، يقرر الكاهنان الانفصال عن بعضهما البعض والاختباء، لكنهما يقعان في الأسر. وبينما يلقى فرنشيسكو مصيره بالموت غرقا وهو يحاول إنقاذ إحدى الفتيات اللاتي يتم إغراقهن عنوة في البحر بعد أن يجعلونهن يرتدين ما يشبه القفص المقيد للأيدي والأرجل، يصبح سباستياو بمثابة الهدية الأخيرة لقاضي قضاة التفتيش الذي يقوم بدوره الممثل الياباني الكبير “إيساي أوغاتا” ( الذي تألق في دور الإمبراطور هيروهيتو في فيلم “الشمس” للمخرج الروسي ألكسندر سوكوروف). بعد أن يقع سباستياو بين أيدي السلطات اليابانية، تريد أن تجعله مثالا تنكل به إلى أن يعلن توبته علانية أمام أتباعه، لكنه يصبر ويثابر كأنه يريد أن يصبح قديسا، كأنه يبحث عن “الشهادة”، وهي الرؤية المثالية التي يتوقف أمامها سكورسيزي بقدر من التساؤل، لكن سباستياو يتطلع إلى السماء ويتساءل: لماذا لا يتدخل الرب لينقذ الذين يحبونه من العذاب، ولماذا لا يبعث له إشارة بسيطة تكون سبيله للمقاومة. هل هو موجود، يرى ويسمع، أو أنه أغلق أذنيه وآثر أن يترك الأمر له؟ حول العقيدة يصور سكورسيزي المسيحيين اليابانيين في صبرهم على العذاب في صورة قريبة من صورة المسيحيين الأوائل الذين كانوا يعانون من اضطهاد الرومان، لكن أشكال التعذيب أشد فتكا وتنكيلا ومن بينها الصلب داخل الماء، قطع الرؤوس بالسيف، الحرق بالنار، الدفن في الماء.. وغير ذلك من صور صادمة كثيرة مليئة بالعنف والدماء. سباستياو كما يقول له القاضي، هو الكاهن المسيحي الأخير الذي لم يعلن توبته عن العقيدة بعد. إنهم يريدون أن يجعلوه مثالا للتراجع عن الإيمان أمام أتباعه من البسطاء اليابانيين. ويدور بين الرجلين حوار حول مسألة العقيدة، يعكس كيف ينظر كل طرف إلى الموضوع. ويصطبغ أداء الممثل أوغاتا، بلمسة مضحكة تشوب أداءه الساخر الذي يعكس الوجه الآخر الهادئ الذي يريد قهر الفكر قبل قتل الجسد. يطلب معاونوه من المسيحيين اليابانيين مطلبا وحيدا هو أن يضعوا أقدامهم على تمثال صغير للمسيح. ومن يرفض يلقى مصيره، أما من يقبل فيطلق سراحه على الفور. عذاب الكاهن الكاثوليكي اختبار لما يصنعه الألم بالروح هل سيتمكن سباستياو من الصمود حتى النهاية. عندما يأتون له بالأب فرييرا يكتشف أنه انصاع ربما دون أن يتخلى داخليا عن معتقداته، بينما يستنكر فرييرا أنانية سباستياو وكيف أنه يريد أن يصبح قديسا على حساب الآخرين. يتجه سباستياو بعد هذه المواجهة إلى الرب، يريد أن يسمع صوته، يأتيه الجواب على لسان الرب، ربما على سبيل الحلم أو الرؤية أو الهلوسة: ضع قدمك فوقي.. افعل.. فهذا لن ينال من إيمانك! يدّخر لنا سكورسيزي مفاجأة في نهاية فيلمه بعد أن يجعل سباستياو يرتدّ ويتعايش هو والأب فرييرا مع اليابانيين الذين يفرضون رقابة مشددة على المرتد لسنوات حتى يتأكدوا من ارتداده، يجعلونه مسؤولا مع معلمه على تفتيش البضائع التي تحملها السفن القادمة إلى اليابان، التي أصبحت تنحصر الآن في السفن الهولندية فقط، يبحثان ويفتشان عن أيّ رمز من الرموز المسيحية قد يكون مخبّئا داخل البضائع والسلع. أسلوب مختلف تغيب هنا معالم أسلوب سكورسيزي المألوفة التي عرفناها في أفلامه السابقة، فنحن هنا أمام عمل كلاسيكي شديد الإتقان والصنعة، خاصة من ناحية التصوير المبهر البديع من جانب مدير التصوير المكسيكي رودريغو بريتو (عمل معه في “ذئب وول ستريت”)، وتميز الصور بالتكوينات الجميلة للمناظر الطبيعية، مع دقة في الديكورات والأزياء وتصفيفات الشعر والإكسسوارات التي تساهم كلها في تجسيد معالم الفترة. رغم هذه الدقة والرونق، يعاني الفيلم من الطول المفرط (ساعتان و41 دقيقة) مع كثرة الحوار، وغلبة اللغة الإنكليزية، مع أداء عدد كبير من الممثلين اليابانيين الإنكليزية باللهجة اليابانية، مما شكل صعوبة في استقبال الكثير من عبارات الحوار بسبب خشونة اللهجة. رغم ذلك، يبرع الممثل يوسوكي كوبوزوكا في أداء دور “كيشيجيرو”، وهو شاب هائم على وجهه، غريب الأطوار، كان يعتنق المسيحية لكنه ارتد، ثم أصبح يتودد إلى رودريغيز، لكنه يشي به مقابل 300 قطعة من الفضة، ثم يعود لكي يطلب منه المغفرة وقبول اعترافه بالإثم، نافيا أن يكون قد وشى به من أجل المال، لكنه يرتد مجددا عندما يجد نفسه مطالبا بوطء رمز المسيح بقدمه لكي ينجو من الموت. هذا النموذج يشبه في بعض ملامحه “يهوذا”. إن مشكلة فيلم “صمت” ليس فقط طوله الزمني، ولا صعوبة نطق الإنكليزية اليابانية، بل أساسا أحادية الرؤية وأحادية الشخصية الرئيسية أي شخصية البطل “سباستياو رودريغيز” الذي لا يرقى إلى أن يصبح بطلا تراجيديا، فتشككه ليس فلسفيا يراجع الأفكار الراسخة في العقيدة، بل يعكس حيرته وقت الأزمة، وإصراره على الصمود يبدو مستندا على اليقين بما لا بد أنه سيأتي من أعلى، وهو لا يستجيب للضرورات إلا بعد أن يتلقى الإشارة، فإذا كان الأمر محسوما من البداية فلماذا كل هذه الإطالة والانتظار، مما أفقد الفيلم التركيز وجعل المتفرج يضلّ عن المسار الرئيسي؟ المشكلة الكامنة في السيناريو من البداية أنه لا ينجح في تطوير القصة أو الشخصية فهي كما تبدأ تنتهي، أضف إلى ذلك عجز الممثل أندرو غارفيلد عن التماهي مع الدور بصورة مقنعة، فظلت انفعالاته أحادية متكررة، ووجهه مكتسيا بالجمود. المشكلة الأخرى الواضحة في الفيلم، تتعلق بغياب الاهتمام الكافي بالكشف عن الرؤية الأخرى، اليابانية للدين، للموقف من المسيحية، من التبشير وتغيّر عادات السكان، هل كان هذا الموقف الشرس في اجتثاث المسيحية من اليابان ووأدها في مهدها (والقصة بالمناسبة حقيقية) مرتبطا بالخوف من اهتزاز سلطة الإقطاع؟ هل كانت خشية من إحداث ثورة في الوعي العام، أم خوفا من ضياع التقاليد والقيم اليابانية المتأصلة؟ لم يكن الحوار بين قاضي التفتيش ورودريغيز رغم براعته، كافيا لتسليط الضوء على هذا الجانب الذي يتسبب غيابه في الإخلال بالتوازن في الفيلم، فقد بدا أن كل هذا العنف مدفوع بالشر المطلق في مواجهة “الخير المطلق”، أي الانحياز لرب واحد فقط، مع رفض وشطب “بوذا”. وبدا اليابانيون أشرارا موغلين في الشر حتى النهاية الدموية، بينما بدا القس الكاثوليكي وأتباعه اليابانيون المسيحيون، هم الطيبون الأبرار، سواء تمسكوا بالعقيدة حتى الموت، أو اضطروا للتظاهر بالارتداد مع الاحتفاظ بالرمز المقدس حتى القبر! ناقد سينمائي من مصر :: اقرأ أيضاً ذكورة وأنوثة: جدل الكتابة والمرأة والمجتمع والتغيير تأنيث الكتابة مفهوم التحرر النسوي على محك أصوليتين الاختلاف لا يعني الاستنقاص