صغنا منذ سنوات مصطلح الثورة الكونية لنشير إلى ثورة مثلثة الأبعاد. ونعني أنها في المقام الأول ثورة سياسية تتمثل في الانتقال من الشمولية والسلطوية إلى الديموقراطية وثورة قيمية تشير إلى الانتقال في مجال القيم الاجتماعية من القيم الخاصة بالبناء الإنساني إلى القيم ما بعد المادية التي تتعلق بالجوانب الروحية للإنسان وفي مقدمها الاتجاهات الدينية والإحساس بضرورة الحفاظ على الكرامة الإنسانية، وأخيراً هي ثورة معرفية تتعلق بالانتقال من الحداثة التي كانت الأساس الذي قامت عليه الثورة الصناعية إلى ما بعد الحداثة، والتي تعبر عن القيم التي نشأت العولمة على أساسها، غير أنه تبين لي من بعد ومن خلال قراءات متعددة ومتعمقة أن هناك ثلاث ظواهر جديدة تميز المجتمعات الإنسانية المعاصرة. وأولها نشوء المجتمعات الخطرة وثانيها في مجال الأمن القومي صعود ما يطلق عليه الأمن القومي المعلوماتي وأخيراً وليس آخراً تشكل حضارة إنسانية جديدة تحاول التصدي لظواهر الاستعمار الجديد والعنف والإرهاب. يمكن القول أن المجتمعات الخطرة نشأت مصاحبة للثورة الصناعية التي قامت على أساس الاعتماد على الآلات لزيادة الإنتاج وما صاحبها من تلوث الهواء نتيجة للانبعاثات الدخانية التي كانت تنبعث من مداخن المصانع المختلفة. ومجتمعات الخطر مفهوم صكه أساساً عالم الاجتماع الألماني إرليس بك في كتابه «مجتمع المخاطر» الذي ترجم من الألمانية إلى عشرات اللغات الحية. غير أن عالم الاجتماع الإنكليزي الشهير هو الذي أبرز العلاقة الوثيقة بين العولمة والمخاطر. ويقول هذا العالم الاجتماعي الشهير أنتوني جدنجز في كتابه الجامع «علم الاجتماع» «تؤدي العولمة إلى نتائج بعيدة المدى وتترك آثارها على جوانب الحياة الاجتماعية جميعها تقريباً. غير أنها باعتبارها عملية مفتوحة متناقضة العناصر تسفر عن مخرجات يصعب التكهن بها أو السيطرة عليها. وبوسعنا دراسة هذه الظاهرة من زاوية ما تنطوي عليه من مخاطر. فكثير من التغيرات الناجمة عن العولمة تطرح علينا أشكالاً جديدة من الخطر تختلف اختلافاً بيناً عما ألفناه في العصور السابقة. لقد كانت أوجه الخطر في الماضي معروفة الأسباب والنتائج أما مخاطر اليوم فهي من النوع الذي يتعذر علينا أن نعدد مصادره وأسبابه أو التحكم في عواقبه اللاحقة. وهكذا استطاع جدنجز بهذه العبارات المركز أن يصوغ مشكلة البحث في موضوع المخاطر وأن يحدد علاقتها الوثيقة بالعولمة. وقد قدمت موسوعة ويكيبديا المعروفة تعريفاً موجزاً لمجتمع المخاطر حين عرفته بأنه «نظرية اجتماعية» تصف إنتاج وإدارة المخاطر في المجتمع الحديث، والذي كان لإرليس بك كما ذكرنا فضل صك المفهوم. وقد ركز على دور وسائل الإعلام الجماهيرية في الكشف عن المخاطر ووصف ضروب المصالح السياسية والعلمية المتنافسة والخاصة بكيفية إدارتها. ولا يعني مفهوم مجتمع المخاطر بذاته أنه مجتمع تزيد فيه معدلات الخطر بقدر ما يعني أنه مجتمع منظم لمواجهة المخاطر لأنه مشغول بالمستقبل وبالأمن في شكل متزايد، وهو الذي ولدّ فكرة الخطر. وإذا كان البشر قد تعرضوا للمخاطر طوال تاريخهم المكتوب إلا أن المجتمع الحديث يعرض لنمط خاص بين الخطر، والذي هو نتيجة لعملية التحديث ذاتها التي غيرت من التنظيم الاجتماعي. وإذا كانت هناك مخاطر نتيجة لأسباب طبيعية كالزلازل والفيضانات، والتي لها آثار سلبية على الناس إلا أن المخاطر الحديثة من ناحية أخرى هي نتاج النشاط الإنساني في الأساس. ولا نريد أن نخوض في الحديث عن أنواع المخاطر المختلفة لأننا نسعى إلى بيان المخاطر التي يمثلها تأسيس المجتمعات الصناعية الحديثة من زاوية سيطرة المذهب الرأسمالي على الاستثمار في المشروعات الصناعية. وهذا هو السبب الذي أدى بعالم الاجتماع الإنكليزي إلى أن يضيف إلى نظرية إرليس بك أبعاداً جديدة تماماً سياسية واجتماعية وثقافية، إذ يقول: «إن المخاطر لا تقتصر على الجوانب البيئية والصحية، بل تشتمل كذلك على سلسلة من المتغيرات المتداخلة في حياتنا الاجتماعية المعاصرة ومن جملة هذه المتغيرات التقلب في أنماط العمالة والاستخدام وتزايد الإحساس بانعدام الأمن الوظيفي وانحسار أثر العادات والتقاليد على الهوية الشخصية. ويخلص من ذلك إلى أن مستقبل الأفراد الشخصي لم يعد مستقراً وثابتاً نسبياً كما كانت الحال في المجتمعات التقليدية لذلك، فإن القرارات مهما كان نوعها أو اتجاهها أصبحت تنطوى الآن على واحد أو أكثر من عناصر الخطر بالنسبة للأفراد. ويرى إرليس بك أن المخاطر تؤثر أيضاً في خيارات وقرارات أخرى تتصل بالمؤهلات التربوية والتعليمية وبالمسارات الوظيفية والمهنية. ذلك، لأنه من الصعب التنبؤ بطبيعة المهارات والخبرات العملية التي ستكون مطلوبة في مجالات الاقتصاد المقبلة المتغيرة على الدوام. وينطبق ذلك على وجه الخصوص على العلاقة بين نظم التعليم واحتياجات السوق. بمعنى أن جيلاً كاملاً من المتعلمين تعلّماً نظرياً قد لا يجدون لهم مكاناً في سوق العمل التي تتطلب في مرحلة تاريخية ما مهندسين أو مختصين أو عمالاً مهرة. من هنا، يصبح اختيار المسار التعليمي ذاته نوعاً من المخاطر إن لم يضع المتعلم في اعتباره تحولات السوق واحتياجاتها إلى نمط تعليمي معين وخبرات عملية محددة. وليس هناك شك في أن أحد أسباب بروز مجتمع المخاطر العالمي هي العولمة بتأثيراتها في مجمل العالم لأن الأخطار تنتشر بصرف النظر عن الاعتبارات الزمانية والمكانية. بعبارة أخرى أصبحت المخاطر بفضل العولمة عابرة للحدود والقوميات والثقافات. غير أنه يمكن القول أن العالم الاجتماعي جدنجز أغفل ذكر أبعاد أخرى لوجود المجتمعات الخطرة الآن في العالم. ولعل أهمها على الإطلاق الهيكل الطبقي في المجتمعات المتقدمة، والذي يتمثل أساساً من الطبقات العليا التي تحصل على النصيب الأكبر من مدخلات الدخل القومي في الوقت الذي تعاني الطبقات الوسطى والفقيرة من متاعب جسيمة لكي تواصل حياتها اليومية. وقد أثبت عالم الاقتصاد الفرنسي الشهير توماس ﭙيكيتي في كتابه الذي ترجم إلى عشرات اللغات الحية «رأس المال» صعود ظاهرة عدم المساواة في المجتمعات الصناعية المتقدمة تكنولوجياً بصورة أصبحت تمثل خطراً حقيقياً على غالبية السكان لدرجة أنه تنبأ بأن عشر السكان الذين يمتلكون الثروة سيسيطرون أيضاً على النظام السياسي السائد بحيث تسقط الديموقراطية ويتحول إلى نظام «أوليغاركي» بمعنى حكم الغالبية التي تملك الثورة والسلطة معاً. ولعل إشارة ﭙيكيتي العميقة وجدت لها تمثلاً حقيقياً في فوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأميركية وهو رجل أعمال وملياردير لم يكن له نشاط سياسي معروف من قبل، وقد جاء ممثلاً طبقةَ رجال الأعمال الذين يريدون بالإضافة إلى الثروة – امتلاك السلطة السياسية بالكامل! هكذا، تبرز للعيان خطورة المجتمعات الخطرة المعاصرة التي تسودها ليست فقط ظاهرة اللامساواة ولكن كارثة الانتقال من ديموقراطية هشة إلى سلطوية سياسية معلنة! * كاتب مصري