ليلى م أول فيلم غربي عن تنظيم داعش من الداخل المتخيل ظهرت الكثير من الأفلام التسجيلية والقليل من الأفلام الروائية الطويلة التي تناولت موضوع ظهور وانتشار ما يسمّى بـ{تنظيم الدولة الإسلامية أو (داعش)، خاصة بعد أن امتدت عملياته واستقطابه لعدد كبير من الشباب في البلدان الأوروبية، لكنّ فيلما من هذه الأفلام، لم يكن بمثل ما يتمتع به الفيلم الدنماركي ليلى م الذي شاهدناه في مهرجان لندن السينمائي الأخير، من تماسك وقوة وجرأة في التصوير وقدرة على الإقناع بشخصياته وأجوائه وأحداثه، وهي العوامل الأهم في استقبال أي عمل سينمائي. العربأمير العمري [نُشرفي2017/01/20، العدد: 10518، ص(16)] فتاة مغتربة تتمرد على أسرتها ومجتمعها فيلم “ليلى م” “Layla M” هو من تأليف وإخراج المخرجة الدنماركية ميكا دو يونغ، وقد اختارت المخرجة-المؤلفة بذكاء ألا تتبع خطا دراميا مباشرا يتعلق كما يتوقع المشاهدون، بطريقة تنظيم داعش في الإيقاع بالشباب المسلم في أوروبا وتجنيده. المخرجة آثرت في فيلمها أن يكون هذا الجانب متضمّنا في سياق السرد السينمائي، الذي يتركز أساسا على فكرة التهميش الثقافي للمرأة، داخل وخارج محيط الأسرة، وإنكار دورها وحقوقها وما يؤدي إليه هذا التهميش الذي يصل أيضا حد القمع، بدلا من محاولة الفهم والاستيعاب إلى نوع من “الاغتراب” سواء عن الأسرة أو عن المحيط الاجتماعي بأسره، ثم التوجه نحو تحقيق الذات من خلال الغرق في وهم العثور على الطريق الصحيح، الذي يكون هنا مخالفا تماما بل ومضادا للمجتمع بأسره ومناهضا للأسرة (كأنما هناك رغبة تدفع بطلته الفتاة الشابة المتفوقة دراسيا) إلى معاقبة أسرتها بالمغالاة فيما ترفضه، وتحدي المجتمع الهولندي الذي نشأت فيه وهي ذات الأصول المغربية، والتمرد عليه بدعوى رفض قيمه ومظهره، أي ثقافته. الاغتراب الفيلم لا تتردد فيه ولو لمرة واحدة كلمة داعش، لكنه يتحدث بشكل واضح عن التجنيد والتوريط ثم اللجوء للعنف إن قضية الفيلم الأولى هي ذلك الاغتراب الثقافي الذي يكون الشعور به مضاعفا في حالة فتاة من أسرة عربية مسلمة تعلمت ونشأت في مجتمع أمستردام، نجحت في دراستها، يريد كل من أبيها وأمها أن تكمل تعليمها بدراسة الطب، ولكنها بعد أن ترى كيف يتعامل معها “الآخر” المختلف، تحديدا بسبب اختلافها عنه (ترتدي الملابس التي تشمل غطاء الرأس التي يقال لها الزي الإسلامي!)، ثم تصر في ما بعد على التعبير عن احتجاجها على القانون الصادر حديثا عن طريق الإصرار على ارتداء النقاب، رغم معارضة والدها الشديدة. الوالد بقال ناجح في تجارته، يعامل الجميع بود وتقدير واحترام، وهو من أنصار الاندماج في المجتمع الذي هاجر إليه، ومن النوع الذي يفضل غض الطرف عمّا يتعرض له في مواجهة ما يثار بين حين وآخر من احتكاكات ذات طابع عنصري، مفضلا الانحناء للعاصفة، والأم تؤيده في موقفه، ولكن بشكل مخفف، بل إن الدور الذي تقوم به تجاه ابنتها ليلى يبدو ضعيفا بحكم ضعف كيانها داخل الأسرة. أما شقيق ليلى الذي يصغرها، فهو ينساق في البداية معها فيشارك في تظاهرات الاحتجاج، لكنه يتوقف فور أن يرى أن الصدام مع السلطة قادم لا محالة، وخاصة بعد أن تتجه ليلى ورفاقها نحو اعتناق الفكر الذي يقال له “الجهادي”. عنصرية كامنة عنوان الفيلم “ليلى م” هو اختصار لاسم بطلته “ليلى المرابط” (التي تقوم بدورها الممثلة الجديدة المدهشة نورا القصور)، ويبدأ الفيلم باحتكاك بين ليلى التي تلعب كرة السلة في فريق والدها ضد فريق من اللاعبين الهولنديين، حيث يشي واقع بعض الاحتكاكات بنبرة عنصرية من جانب الهولنديين البيض، مما يدفع ليلى للشعور بالغضب واتهام والدها بالتقاعس عن التصدي لهؤلاء العنصريين. ومن تلك اللحظة، وبعد أن تتابع أنباء الإساءات التي يتعرض لها المسلمون في هولندا وغيرها، ثم قانون حظر النقاب، تبدأ ليلى في قراءة القرآن والاستماع إلى الشرائط التي تبثها جماعات جهادية عبر شبكة الإنترنت، ثم تقيم علاقة مع شاب ينتمي لهذه الجماعات يدعى عبدالله، وتشترك معه في التظاهرات التي تهتف ضد الدولة وتدعو لتطبيق الشريعة وما إلى ذلك. وتدريجيا تزداد علاقة ليلى بأبيها توترا مما يفضي بها إلى ترك دراستها ومنزل الأسرة والالتحاق بعبدالله، ليتزوجا ويسافرا معا إلى الأردن استعدادا للانضمام إلى تنظيم داعش في سوريا. يبدو الأداء الطبيعي مذهلا من جانب الممثلة الجديدة نورا القصور التي تتحرك وتثور وتغضب وتحتج، ثم تصالح وتحنو، وتريد أن تتفهم وتعبّر عن مشاعرها العاطفية بصدق ومن أفضل أجزاء الفيلم الجزء الذي يدور في الأردن، حيث تقطن ليلى وعبدالله في منزل مهدم، لكنه يبقى مفتوحا لأعضاء الجماعة المتطرفة من المسلحين، ورغم لحظات المرح التي تخلقها ليلى بشخصيتها أحيانا وتضفي بها على العلاقة الزوجية جوا من الحميمية، إلا أنها سرعان ما تكتشف أنها أصبحت سجينة في المنزل، فعبدالله لا يناقشها، بل يصدر لها الأوامر والتعليمات بعدم مغادرة المنزل إلا معه، ويحظر عليها حتى الذهاب إلى دروس الوعظ الإسلامي في المسجد القريب، ولكنه يمنح نفسه الحرية في أن يأتي بمن يشاء من رفاقه المسلحين في أي وقت، ويجبرها على أن تضحي بكل ما عندهما من مأكل لتقديمه للضيوف، فهذه هي بيعة “رفاق التنظيم الواحد”! تتوتر العلاقة بين ليلى وعبدالله، ويتضح أمام ليلى أن ما جاءت من أجله، أي الانتماء والشعور بأنها قد أصبحت جزءا من جماعة تتمسك بقيم إيجابية نبيلة، تريد إعلاء كلمة الحق، مجرد وهم كبير، فهي ترى كيف يضحي التنظيم بزوج شاب لامرأة أجنبية قبلت العيش كجارية، وأنجبت أربعة أطفال وهي حامل بطفل جديد، بعد أن رضخ الزوج لتعليمات التنظيم وذهب في مهمة انتحارية. وهذا المصير هو ما سينتظر بعد فترة قصيرة على ما يبدو، عبدالله نفسه، فهل بوسعه أن يرفض؟ التدرج في تصوير تقلبات شخصية ليلى وصولا إلى اكتشافها المرعب في النهاية أن الانتماء للموت مستحيل، وأن تقديس الحياة لا يجب أن يتناقض مع التديّن، وأن الهوية ليست فقط في الدين بل في الانتماء الإنساني، كل هذه المعاني لا تصل إلينا من خلال المناقشات والحوارات المباشرة، بل من خلال بناء المواقف والمشاهد المختلفة، والتقاط التفاصيل الصغيرة الموحية والقدرة على الانتقال في الوقت المناسب إلى حدث آخر يضيف إلى الفكرة ويعمقها. قوة الإقناع قضية الفيلم الأولى هي ذلك الاغتراب الثقافي الذي يكون الشعور به مضاعفا في حالة فتاة من أسرة عربية مسلمة تعلمت ونشأت في مجتمع أمستردام يتمتع الفيلم من ناحية الصورة بالقدرة على الإقناع بالواقعية بفضل عاملين أساسيين، هما بناء المشاهد أو تصميم المناظر وإعداد المحيط الخارجي وأماكن التصوير في الأردن بوجه خاص، مع ذلك يبدو الأداء الطبيعي مذهلا من جانب الممثلة الجديدة نورا القصور التي تتحرك وتثور وتغضب وتحتج، ثم تصالح وتحنو، وتريد أن تتفهم وتعبّر عن مشاعرها العاطفية بصدق ودون تشنج في لحظات الصفاء، ثم تعود إلى الشعور بالإحباط لتنتقل إلى صدمة الاكتشاف ثم الوقوع في الإحساس بالضياع والفزع مما انتهت إليه، ثم الرغبة في العودة، رغم ما يمكن أن تواجهه هناك في أوروبا من مصير أسود مع السلطات التي رصدت وسجلت وأصبحت تعرف كل شيء عما قامت به، وتنتظر عودتها لتصفية الحساب. لا تتردد في الفيلم مرة واحدة كلمة داعش ولا تنظيم الدولة الإسلامية، لكن الفيلم واضح تماما بشأن هذا النمط في التجنيد والتوريط ثم اللجوء للعنف، كما يتمتع الجزء الخاص بموقف الشرطة الهولندية وما تقوم به في مواجهة تلك الجماعات في الداخل الهولندي، بالكثير من المصداقية والواقعية، ولا شك أنه اعتمد على دراسة جادة من الداخل في هذا الشأن. “ليلى م” هو دون شك أفضل ما أنتج حد هذه اللحظة من أفلام حول هذا الموضوع، سواء كسيناريو مكتوب بحرفية كبيرة وبراعة عالية أو كإخراج واثق متقن، تعرف صاحبته كيف تدفع الأحداث، وأين تتوقف دون أن تسقط في المبالغات الميلودرامية والصراخ والهستيريا المألوفة في الكثير من هذا النوع من الأفلام، بل تتعامل بهدوء وتفهم مع الشخصية الرئيسية التي لا تدينها ولا تشطب عليها، بقدر ما تتعمق في فهم سيكولوجيتها: كيف وصلت إلى ما وصلت إليه، وطبيعة المأزق الذي وقعت فيه؟ وهذا التناول الخافت المدروس هو ما يمنح الفيلم جمالا وتألقا يجعلانه بموضوعه المثير والمطروح بقوة على الساحة في الوقت الحالي، يصل إلى الهدف. وبقدر ما هو دراسة لشخصية، فإن الفيلم أيضا هو دراسة لكيف يسقط من يسقطون في أحابيل التنظيم بدعوى الخلاص من القهر، فيصبحون هدفا لقهر أشد، ينتهي غالبا إلى الموت! :: اقرأ أيضاً قصص تونسية أبطالها أسرى في مشفى للمجانين القصة القصيرة أسيرة جزيرة شبه مهجورة رواية أميركية عن الحزن والمنفى والهوية ثلاثة كتب عمانية بين النقد والبحث والرواية