تجلس ناز آشيتي على حافة السرير في غرفتها في دار مكتظة للمسنين في دمشق، تقلب في صور بناتها اللواتي اخترن الغربة هرباً من الحرب، تتأمل صورة كل واحدة على حدة، وتتحسر على أيام تقضيها بعيداً عنهن. لم يعتد الجزء الأكبر من السوريين في السابق على إرسال المسنين من أفراد عائلاتهم إلى دور الرعاية، لكن الحرب التي تجتاح البلاد منذ ست سنوات لم تترك للكثيرين منهم أي خيار آخر. وفي غرفتها في دار السعادة للمسنين في دمشق، تقول ناز آشيتي (85 عاماً) جئت إلى هنا لأن منزلي انهار في مدينة دوما، وأبنائي تهجروا كل واحد منهم في بلد. وتضيف بناتي مثلاً واحدة منهن تعيش في الأردن، وأخرى في ألمانيا، وثالثة في أربيل. تحاول ناز قدر المستطاع أن تحافظ على نمط الحياة ذاته الذي اعتادت عليه في بيتها في دوما، هذه المدينة الواقعة تحت سيطرة الفصائل المعارضة منذ عام 2012. ترتب سريرها بنفسها، وتضع وسادتها البيضاء فوق غطاء أحمر. وتقول ناز كنت أرتّب منزلي في دوما بشكل يومي، وهنا أشعر أن هذا المكان منزلي وعليّ ترتيبه بنفسي. بعد تناولها الفطور في الصباح وتبادل الأحاديث مع جاراتها في الدار، تبدأ ناز بكتابة كل ما يجري معها بانتظار مكالمة هاتفية من أحد أولادها تخبره فيها بحكاياتها. وخلال الساعات التي تتوافر فيها الكهرباء، تجلس أمام التلفاز علها تسمع أخباراً جيدة. وتقول كنا معززين مكرمين في منزلنا. الخدمة هنا ممتازة والمكان دافئ لكني أشعر أني ذليلة بوحدتي... أتحسّر على الحالة التي وصلت إليها، لم أكن أتوقع أن أمضي بقية عمري وأنا أتأمّل صور أبنائي وأتحسّر عليهم. وتقول لميس الحفّار (82 عاماً) المشرفة العامة على الدار لا يوجد أي مكان شاغر في الدار، سوى في حال وفاة أحد المسنين. وتضيف الحفار، التي أسهمت في إنشاء الدار قبل 25 عاماً، لائحة الانتظار طويلة ومتجددة بشكل يومي... بعد الحرب زادت الطلبات كثيراً، لكننا لا نستطيع تلبيتها جميعها، وبات الحصول على سرير حلماً لكثير من المسنين. توزّع حسنية (75 عاماً) الحلوى على صديقاتها في الغرفة، وهي التي قتل ابنها الوحيد أحمد (36 سنة) في تفجير في دمشق في عام 2012. تروي حسنية اللاجئة الفلسطينية في سوريا من عشرات السنين قصتها بقولها نزحنا من مخيم اليرموك (للاجئين الفلسطينيين في دمشق) في عام 2012 بعدما توفي ولدي بانفجار. وتضيف فقدت الأمل بالحياة ولم أعد أقوى على الاهتمام بنفسي؛ لذلك جئتُ إلى دار السعادة. وفي غرفة مجاورة، تُمسك حميدة الحداد (85 عاماً) بسبحتها تقرأ القرآن والدعاء. تجلس على حافة سريرها وعلى رأسها شال أبيض. كانت حميدة تعيش في بلدة مضايا قرب دمشق، وتمكنت من الخروج منها قبل يومين من قطع الجيش السوري الطريق إليها قبل حوالي عامين إثر معارك مع الفصائل المعارضة. وتروي حميدة كنت مريضة وأحضرني ابني إلى مستشفى في دمشق قبل أن يغلق الطريق بيومين. لم تتمكن حميدة من العودة إلى منزلها وعائلتها، وتضيف اضطررت للنوم في الشارع إلى أن أوصلني أحد الشباب إلى دار السعادة. ترتجفُ أصابع حميدة بشكل دائم، وتهتزّ يدها كلما أمسكت شيئاً. تأكل في غرفتها لعدم تمكنها من النزول إلى الطابق السفلي، تضع أمامها طبقاً من الأرز واللحم، وتقول اشتاق لأبنائي... أنا هنا وحيدة. تنظر من شباك الغرفة وقد اغرورقت عيناها بالدموع، وتقول أبعدتني الحرب عن أولادي وأحفادي، وأشعر أنني سأموت قبل أن يفتح الطريق وأراهم مجدداً. وتضيف الموت مع أبنائي أفضل من الحياة بعيداً عنهم. (ا ف ب)