العشوائية سيدة الترجمة والمترجم يستبيح الأصل كغنيمة لقد نجح الشعر في تجديد أساليبه وفتح آفاق جديدة له، سواء في أساليب الكتابة أو حتى في موادها، التي لم تعد حكرا على اللغة المحض بل انفتحت على عوالم أخرى كالرسم، مثلا، مكنته من الغوص أكثر في بيئاته، لكن ورغم ذلك يعيش الشعر اليوم أكثر فتراته حرجا، خاصة من باب علاقته بقارئه التي تضاءلت بشكل كبير، حيث تطور الشعر ولم يتطور القارئ. العرب التقت الشاعر والمترجم المصري رفعت سلّام في حديث عن الشعر والقارئ والترجمة. العربحنان عقيل [نُشرفي2017/01/17، العدد: 10515، ص(15)] أبدأ الكتابة عادة متحررا من أي صيغة قبلية رفعت سلّام، أحد أبرز الأصوات الشعرية في جيل السبعينات، وما بين ديوانه الأول “وردة الفوضى الجميلة”، وديوانه الأخير "هكذا تكلم الكركدن" عدد من الأعمال الشعرية البارزة منها "إنها تومئ لي"، "هكذا قلت للهاوية"، "حجر يطفو على الماء"، "إلى النهار الماضي"، وغير ذلك من الأعمال الشعرية والنقدية والترجمات التي استطاع من خلالها أن يحفر اسمه بارزا في عالم الشعراء، ليطلق عليه بعضهم "أبوالحداثة الشعرية"، وهو لقب استحقه بعد رحلة مضنية من التجريب الشعري اجتاز فيها آفاقا ومسالك ميزته عن مجايليه من الشعراء. أصوات متضاربة تتسم تجربة سلّام الشعرية بانفتاحها الواسع على آفاق متعددة من التجريب. وربما يكون تعدد الأصوات داخل العمل الشعري سمة واضحة لشعره، وعنها يقول "لقد صحوت، حين صحوت، على صوت واحد منفرد يصرخ في برية الشعر، “ألا هُبِّي بصحنِك فاصبحِينَا”، وأحيانًا “قِفَا نَبكِ..”، وأحيانًا أنا الذي نظَر الأعمَى إلى أدبي". ويضيف "حين امتلكتُ بصري، سمعتُ نفس الصوت يهتف بنبرة معاصرة، حديثة، مشابهة ومغايرة في آن. لكن أصوات العالم كانت تضج وتصخب حولي وداخلي، قريبة وبعيدة، هامسة وصارخة، مبتهجة ومنكسرة، أليمة وسعيدة، منفردة ومتجمعةً، متداخلة ومشتبكة وعارمة، صوت الفلاح الفرعوني الفصيح يشتبك بـ”النشيد الشامل” لنيرودا، وصوت امرئ القيس يختلط بصوت ماياكوفسكي، ويتداخلان -بلا تمايز- في صوت مُنشد الربابة في قرية مصرية مجهولة، فتتشابك كلها في صوت ترانيم غامضة في كنيسة غابرة، ليقطعها بكاءُ طفلةٍ ما في شارعٍ ما، وسيد درويش يغني “أنا هويت.. وانتهيت”، وطنين المدينة الضخمة يلف كل شيء كغبار، وامرأة ما تهدهد طفلها لينام، ونباح كلاب في ساحة قريبة، وإليوت يقول إن أبريل أقسى الشهور، فيرد عليه نجيب محفوظ بأن أبريل شهر الغبار والأكاذيب، ورصاصة تنطلق في ظهر شخص ما، فتقطع سيل الحياة". التراث والمرأة والزمن يتساءل هنا ضيفنا كيف يمكن لعمل شعري أن يحتوي أصوات العالم المتعددة، المشتبكة، المتزامنة؟ كيف يتسع لها، ولا يصبح حكرًا على صوت “الأنا” الشعرية، المهيمن على القصيدة العربية منذ “المهلهل” الذي “هلهل” القصيدة إلى غاية أصغر شاعر راهن؟ في حين تشكل الاستعانة بالتراث القديم سواء كان ذلك في التراث الشعري أو الأساطير القديمة أو الكتب المقدسة سمة رئيسية في الشعر المعاصر، تبدو تلك السمة من الملامح الرئيسية في أعمال سلّام الشعرية والتي يستخدمها بكثافة ملحوظة في نصه الشعري، نتطرق معه هنا إلى الحديث عن الأبعاد التي تضيفها تلك المصادر إلى نصه الشعري، وهل كانت تمثل هذه المصادر، وهل يتم ذلك بقصدية أم أنها تسعى إليه أثناء الكتابة؟ ليجيب سلّام “للتراث جسدٌ راهن، يمشي في شوارعنا وأسواقنا، ويدخل بيوتنا آناء الليل وأطراف النهار، ويندس في أسرتنا وأحلامنا ووعينا، بلا حاجة إلى برهان وشواهد. هو حضور ذو وطأة تثقل الراهن، ولا يمكن الإفلات منه بقرار ذهني ذاتي”. تاريخ الشعر هو تاريخ للدفاع عن إنسانية الإنسان وكرامته عبر العصور، ضد الخراب والإهدار وسفك الدماء والإذلال يتابع “أحيانًا يكون التراث ثراءً فادحًا يجيب على أسئلة شائكة يطرحها الوجود الإنساني، باعتباره خلاصة التجارب الغابرة لمعاركة الزمن، وأحيانًا ما يكون عبئًا فادحًا يعرقل خطى الإنسان إلى الأمام. فهو ليس كتلةً واحدةً موحدةً؛ هو حصاد رؤًى ومحَن وتجارب، وحصاد أجوبة متفاوتة القيمة والصلاحية. وباعتبارها كذلك، فهي بعض ما يشكل قوام الحضور الإنساني في العالم، ويمنحه جذوره الغائرة في عمق التاريخ والزمن”. ويرى ضيفنا أن حضور هذا الجانب في نصه الشعري طبيعي، باعتباره غابة حقيقية من الأصوات المتضاربة، الصارخة في برية الزمن والتاريخ، وصولاً إلينا. حضور مُندس في دواخلنا ولا وعينا، في ذاته، بلا انفصال. فلا حاجة لاستدعاء أو استحضار. لكنه أيضًا حضور -في النص الشعري- محكومٌ بضروراته الإبداعية، والسياق النصي، محكومٌ بموقف نقدي منه، بلا أدنى قداسة، أي ببصيرةٍ ما ورؤية خاصة. في ديوان “حجر يطفو على الماء” يخوض سلّام مساحة جديدة من التجريب الشعري، يعمد فيها إلى الاستفادة من الفنون البصرية والرسوم في النص الشعري. لذا نسأله إن كان ذلك محاولة لإنجاز نص جمالي يجابه هيمنة ثقافة الصورة؟ فيوضح الشاعر “لقد خطر ذلك ببالي حين كنت أستعدّ للكتابة، دون موقف مسبق، عمدي.. بطريقة: لمَ لا؟ فأنا أبدأ الكتابة عادةً متحررًا من أيّ صيغة قبْلية، ويواجهني بياض الصفحة ليسائلني: ماذا؟.. بياض يكون عليَّ تشكيله بما يليق به، بلا تكرار أو إعادة إنتاج لسابق. وخلال إعدادي لورق الكتابة (قصّه في شكل مربع كبير)، وجدت نفسي أخط رسمًا ما على إحدى القصاصات الزائدة.. وتوالت التخطيطات أثناء كتابة النص اللغوي، وبدأت الفكرة في التبلور. وقلت لنفسي: لمَ لا؟ فثبتت الفكرة”. رحلة مضنية من التجريب الشعري من قبل، وأثناء العمل على “حجَر يطفو على الماء”.. لم يفكر رفعت سلّام إلا في العلاقة “التنفيذية” و”السياقية” بين “التشكيلي” و”اللغوي”.. وكان يعتبرها توسيعًا لأفق الكتابة الشعرية بالتزاوج بين الاثنين، ونقلاً لفكرة “التعدد” إلى جوهر العمل الشعري ذاته، الذي يمكنه أن يكون منغلقًا على لغته الأبجدية (على نحو ما هو معهود)، ويتسع للغة أخرى ذات أبجدية مختلفة. وكما يقول "كلما اتسع أفق الكتابة وفضاؤها، سمحت الرحابة لـ”التعددية” بالتحقق. وتعددية اللغات في النص الشعري (أبجدية/ تشكيلية) تمنح عمقًا وفضاءً للتعدديات الأخرى، وتفتح أبوابًا لها ونوافذ لا تخطر مسبقًا على البال". المرأة في الخطاب الشعري لسلّام تحمل عدة أوجه، فتارة هي الوطن، وتارة هي الحبيبة، وقد تحمل رموز الخير أو الشر.. وهنا يلفت الشاعر السبعيني إلى أن المرأة “حمَّالة أوجه”، كالقرآن. وربما كانت قرآننا الأرضي. ولا يمكن للإبداع -أي إبداع، وفي أي زمن- أن يستغني عن القيم الرمزية التي يمكن أن تستوعبها، ولا عن الإيحاءات التي يمكن أن توحي بها وتُلهمها. ويستطرد “لكنها لديَّ متعددة الوجوه والأقنعة، لا امرأة واحدة. وهي ليست رمزًا فحسب، أو حبيبة فحسب، فذلك شائع مستهلك لدى شعرائنا وكتابنا الرومانسيين، منذ أبوللو إلى محمود درويش. لكنها أكثر تعدديةً، وتحولاً من أن يستوعبها بُعد واحد. هي حبيبة وقاتلة، في آن، قد تكون رمزًا للوطن، وأيضًا لخرابٍ ما؛ خيرٌ وشرٌّ، وما بينهما أو يجمعهما. وعلى المستوى الشخصي، فقد عرفت نماذج متعددة، متناقضة، متباينة من النساء، ابتداءً من أمي (اختِصَارُ سَبعَةِ آلافِ سَنَةٍ مِن أوبِئةٍ وَطَوَاعِينَ وَمَجَاعَاتٍ وَفَاتِحِين)، إلى مَن سيحاذينني في الحياة، على نحوٍ أو آخر، بدرجة أو أخرى. معرفةٌ متحققة عينيًّا، على نحوٍ موجع أحيانًا، وجارح أحيانًا، ومبهجٍ أحيانًا، وقاتلٍ أحيانًا أخرى”. يضيف “على المستوى الشعري، فأنا هاربٌ أبدًا -مرعوبٌ أبدًا- من التكرار، تكرار ما سبقت لي -أو للآخرين- كتابته والتوصل إليه. وما وصلني منهم هو تلك الصورة الأحادية، الثابتة، للمرأة. وأنا ضد الأحادية والثبات”. يُبين سلّام أن الزمن عنده لا يتجزأ إلى وحدات: ماض وحاضر ومستقبل، فهو يعتبرها وحدات افتراضية، إجرائية، لا أكثر. هو عنده زمن واحد، موحّد، يحل في وعيه بكل تجلياته، في آن. فكل الزمن -بالنسبة إليه- حاضرٌ، مضارع، راهن. على هذا النحو، يعي “شكاوى الفلاح الفصيح” باعتبارها حالية، راهنة، ليست منفصلة عن الآن؛ شأنها شأن “كتاب الموتى” مثلاً، وأشعار امرئ القيس وأبي نواس.. هي معاصرةٌ له، تحمل نكهة أنفاسه، وسط الصخب المعدني للمدينة الكبيرة. بل لعلها هي أصواته الذاتية، وقد تجلت في أقنعة أخرى، وعلى ألسنة أخرى، في ثقافات متباينة. القارئ والشعر في ما يتعلق بحضور أو غياب القارئ أثناء كتابة القصيدة وتأثيره على الاتجاه الشعري، يؤكد سلّام أنه أثناء كتابة القصيدة، لا يفكر إلا في كتابة القصيدة. أما القارئ، فلا يخطر على البال. فتفاصيل الكتابة، أثناء تحققها، أكثر وأصعب من أن تسمح لعنصر خارجي بالدخول. ولو دخل، لقام بالتشويش على الكتابة. تجربة سلام الشعرية تتسم بانفتاحها على آفاق متعددة من التجريب، فتعدد الأصوات داخل شعره سمة واضحة قد يحوم من بعيد، في لحظات معينة، لكنه -أثناء الكتابة- يمتلك صرامة إزاء كل ما هو خارجي.. وكل عنصر سلبي، بتقاليده المحافظة وتوقعاته التبسيطية، وبنزوعه إلى تفضيل نماذج معينة سائدة، وبخطوطه الحمراء الكثيرة، في ما يتعلق بالدين والجنس والمعايير والتقاليد، وبميله إلى الاتباع، بما يمتلكه من ثقافة “متوسطة” غير نقدية، وبلا عمق، وبتصوراته الذاتية عن ذاته، باعتباره “مركز الكون”، ومقتضيات هذه التصورات إزاء النص الشعري. ذلك ما يشكل عبئًا باهظًا على كتابة تطمح إلى تأسيس جديدها، والضرب في مجاهل غير مطروقة. يلفت سلّام إلى أن الذوق وحده لا يكفي لقراءة شعرية جيدة، فهو نتاج المدرسة ووسائل الإعلام والتربية المنزلية والأفلام التجارية، وجميعها يصنع ذوقًا مضادًّا للشعر، يعتمد السطحية والابتذال والتفاهة كمضمون عام يجري تسييده. فهو -هذا الذوق- يصلح للتوافق مع الاستهلاكي، في الغناء والموسيقى وكرة القدم والخطاب الديني. أما الشعر، فتحتاج قراءته إلى إعمال العقل والوعي والحساسية والطموح، لا إلى النقل، تحتاج إلى بعض معرفة بسياق النص، ووضعيته في المشهد الشعري، وبعض معرفة بتحولات القصيدة العربية. تحتاج القراءة المثمرة إلى حد أدنى -أعلى من المستوى العام- من الخبرة الثقافية والمعرفية. فالشعر له طبقاته ومستوياته المتعددة، وخاصةً الشعر الحديث والمعاصر. ولن يفيد القارئ الانزلاق على سطح النص الشعري، ولن يخرج بشيء -إلا الارتباك، ربما- إن لم يخترق القشرة الخارجية إلى بعض طبقات النص التحتية، العميقة. رحلة من الإبداع الشعري سلكها سلّام بدءًا من ديوانه الأول “وردة الفوضى الجميلة” وحتى “هكذا تكلم الكركدن”.. نسأله عن نظرته إليها ليوضح بأنه لا يدري على وجه التحديد. لافتا إلى أنه ربما كان الأجدر أن يُطرح السؤال على النقد. فرؤية الذات لذاتها محكومة بالنقصان، أو -بطبيعة الحال- بالذاتية. سلام: المرأة "حمَّالة أوجه" كالقرآن لكنه يشير إلى أن ديوانه الأول “وردة الفوضى الجميلة” كان بوابته المشرعة على الأعمال التالية، ففيه بدأ في التحقق “التجريبي”، وبحثه عن “تعدد الأصوات” في النص الشعري، وتحرير الصفحة المكتوبة من تقاليد الكتابة السائدة. يرى إليوت أن مهمة الشاعر هي أن يكون محايدًا، في حين يُحمِّل آخرون الشاعر مسؤولية التوثيق ومساءلة الواقع السياسي والاجتماعي. عن مهمة الشاعر كما يراها سلّام، وإن كان يكتب وفق الوظيفة التي يراها ماياكوفسكي للشعر بأنه “الدفاع عن إنسانية الإنسان في هذا العالم”؟ يجيب ضيفنا "حتى إليوت لم يكن محايدًا فهل “جريمة قتل في الكاتدرائية” أو “الأرض الخراب” أو “الرجال الجوف” محايدة؟ لا حياد في الإبداع. فكيف يمكن الحياد حين تحاصرك المجازر أينما نظرت حولك، أو حين يحيط بك الخراب من كل جانب، أو حين تبلغك صرخات المعذبين في أقبية الأنظمة الدموية، أو حين يتم فرض المجاعة على شعب بكامله كالشعب المصري، أو حين يتم إغلاق الآفاق أمام الملايين، وإخراس أصواتهم، حتى المتوجعة. فلا حياد بين القاتل والقتيل، بين الجلاد والضحية". ويتابع "تاريخ الشعر -في بعض جوانبه، وفي جوهره- هو تاريخ للدفاع عن إنسانية الإنسان وكرامته، عبر العصور، ضد الخراب والإهدار وسفك الدماء والتجويع والإذلال، بلا حاجة لأسماء". غنيمة الترجمة ترجم سلّام العديد من الأعمال لكبار الشعراء مثل كفافيس وبودلير وويتمان. يتحدث الشاعر عن ترجمة الشعر قائلًا "في ظني إن المشكلة الكبرى في ترجمة الشعر -وربما في ترجمة الإبداع الأدبي عمومًا- تكمن في عدم الفصل، وفي الخلط، وعدم التمييز، بين ذات المترجم والنص الأجنبي. ففي ترجماتنا العربية، غالبًا ما يعتبر المترجم النص الأجنبي “غنيمة مستباحة”، بدرجة أو بأخرى، يمكنه أن يحذف منه ما لا يروقه، أو يقحم فيه ما يستهويه، أو يحرف السياق أو الدلالة، أو يطيح بأسلوب المؤلف لصالح أسلوبه الشخصي. أذكر أنه في إحدى ترجمات “زوربا اليوناني” المصرية، وضع المترجم على لسان الرهبان نبرة إسلامية. وفي ترجمة لـ”العجوز والبحر”، وضع المترجم على لسان الصياد البائس العجوز شعرًا من “لامية العجم” للطغرائي". ويضيف "العشوائية هي سيدة الترجمة العربية. ولا قراءة نقدية في هذه الترجمات لترشيد الشطط، ولو قليلاً. بل تجد بعض هذه الترجمات الشائهة من يشيد بها في الصحف، بلا معرفة بالأصل الأجنبي. فما أكثر الروائع الإبداعية العالمية التي أهدرت على يد مترجمين يختالون في الأرض مرحًا. وهي مسألة ليست سهلة الحل، بحكم ارتباطها بانهيار قيم الجدية، والدقة، عامة في مجتمعاتنا، وارتباطها بمجالات أخرى خارجة عنها، كالتعليم والصحافة. هي انعكاس لعملية هدم تدريجية لمكتسبات الخمسينات والستينات الثقافية، وإحلال قيم “الفهلوة” محلها". :: اقرأ أيضاً