... بالعودة للأحداث المتتابعة للشخصية الرئيسية في الرواية، يتضح أن هذا القدر لا يقف عند هذا الحد مع الأم والابنة وإنما يتعدى إلى نفس مقدار الصدمة الذي يصيب الاثنتين، فالأم تصدم بغدر اختها وأمها وزوجها.. حيث يعجب بأختها ويقرر الزواج منها بعد أن يطلق زوجته، فهذه الخيانة والغدر المضاعفان يجعلان من أم الساردة تعيش في حالة من الصدمة والذهول المعبر عنه بالفصل الثالث «الحياة ذهول مستمر»، وتعود الساردة لحادثة صدمة أمها وتسردها كما يلي: «لم أفهم هدف أمي وهي تأخذني معها كل صباح، نمر على بيوت الفريح بيتا بيتا، وفي كل بيت تقوم حلقة الندب، تروي حكايتها، لا تتوقف مشاركات نساء الفريج بالدموع والعويل، وأحيانا الدعوات الماحقات، حتى جدتي لم تسلم منها باعتبارها المشجع الأول. كأن أمي ليست ابنتها الأخرى لم أستطع فهم سبب ميل جدتي لخالتي». تنخرط في بكاء مر..(الرواية، ص: 48) أعراض الصدمة هذه التي مرت بها الأم بعد الحدث الصادم الذي مرت به، غدر الام والأخت والزوج شل قدرتها على التفكير فذهبت تطوف من بيت لبيت لتعبر عن الجرح الكبير الذي حدث بعقلها وروحها، وليشاركها بقية النساء في صدمتها التي تحولت إلى حدث صادم للحي الواحد الذي يتسم بالترابط والتراحم.. ولكن هذه الأم تشفى من جرحها بعدما تثأر منهما بأخذ ممتلكاتها التي كان يتمتع بها طليقها.. فتقول عنها الساردة: «أمي ليست أمي! لم تك التي أعرفها، أصبحت تبتسم كثيرا. تتكلم، تعلق على كل حديث، غابت نظراتها الساهمة. قالت لي مرة إياك والخوف على أي شيء فالخوف قيد ثقيل». (الرواية، ص: 52) ومن الملاحظ أن أم الساردة تشفى من جرحها وتكتسب مع مرور الزمن خبرة نفسية وحكمة جعلتها أقوى في إدارة نفسها، وفي إعطاء الابنة نصائح من تجاربها الشخصية فخوفها الذي كان قيدا ثقيلا وحرصها على اغتنام فرصة الزواج من ابن عمها لم يمنعها من مواجهة قسوة القدر في حرمانها منه وأن تتحقق مخاوفها الواعية منذ الصغر في زواجه من أختها قد تحقق مسببا له صدمة كبرى كانت ستكون أخف لو تم زواجه من الأخت الصغرى سابقا «فالخوف قيد ثقيل». ولكن هذا التطور بالرؤية، لم يمنعها من أن تسرب يقينها بأن «كل رجل هو شيطان». وهذه الرؤية السوداوية الأحادية منبثقة من تجربتها المريرة مع زوجها وبعض القصص التي استمعت إليها من نساء حيها المعذبات مثلها من الرجل، ولا سيما وضحة التي تزوجت سبع مرات وقررت أن تكون هي من يترك الرجل قبل أن يغدر بها، كرد فعل مساوٍ لفعل غدر الرجال القار في الذاكرة الشفهية عند نساء الفريج رد الفعل بذات القدر من الفعل، يتمثل في شخصية وضحة: «جيت أنا. محصنة من الحرات، إحنا نحتر لأنهم يتركونا ليش ما انحرهم نحرقهم فنتركهم برغبتنا». (الرواية، ص: 49) عودة لمفهوم القدرية في النص التي واجهت كلاً من أبناء وبنات الأسرة الواحدة والمرأتين خصيصا كون السرد مرويا من منظور نسوي، لاقت فوزية نفس الصدمة، إضافة إلى صدمة أمها التي عايشتها وهي صغيرة، عاشت فوزية صدمتين شخصيتين الأولى تخص انفصالها عن حبيبها اسماعيل الشيعي بسب الخوف من عدم رضى الأسرتين وعدم قدرتهما على مَس هذا العصب الحساس وهي صدمة فكرية للبطلة واسماعيل. يقول محمود لإسماعيل حول ارتباطه بفوزية: «لست أنت الذي يتجاهل الواقع، مجتمعنا متآلف لأن حساسيته مستيقظة فلا تمس المناطق العصبية المؤلمة، أنت شيعي تنتمي لأسرة لها مكانتها الدينية، وهي سنية حنبلية». (الرواية، ص:88) لذا نجد شخصية فوزية تعيش بمرحلة من الصدمة الفكرية فكيف لطالب وطالبة جامعيين مثلهما تحررا من الكثير من القيود الاجتماعية وسافرا لمصر (قبلة المستنيرين العرب في القرن الماضي) للدراسة أن يقعا في فخ هذه القيود والقوالب الاجتماعية التي تحاصرهما. لذلك نجد الشخصية تتهكم هنا وتقول: «يا ضيعة الوجودية عندنا» وفي موضوع آخر تعلق: «توهمت أنني منطلقة من القيود فإذا هي تلتف حولي. بذور الوجودية القديمة عندي تم إخصاؤها، رغبة كامنة في جعلي عاقرا». (الرواية، ص: ٥٩) تعبيرا عن أن الإنسان محاصر وعاجز عن الحركة وتحقيق رغباته الفردية في هذا المجتمع الأبوي التقليدي، وهو ما جعلها تعاني من صدمة عاطفية وفكرية:«ارتعشت، بكيت، هلوست، كشفت نفسي إلى درجة الفضيحة.. عندما احتضنتني وجدت الصدمة فرصتها لتنفجر، تصاعدت حركة الارتعاشة، تنفضني نفضا». (الرواية، ص95) الصدمة العاطفية التي حدثت لها من جراء فشلها بتجربة الحب وقعت تحت وطأة الزواج التقليدي فاستسلمت للضغط النفسي الممارس ضدها من عمها داوود وابنه نجيب، وتعلق الساردة هنا بامتعاض عن هذه القدرية التي تعيد نفسها معها بقولها: «الحتمية التاريخية تؤكد انتصار مقولة رقعته منه وفيه». (الرواية، ص:112) وهذه المقولة هي من الأمثال المسيطرة على عادات وتقاليد الشعب الكويتي خصوصا فيما يتعلق بعلاقات النسب والزواج.. فالمجتمع الكويتي متسامح في علاقاته الاجتماعية إلا فيما يخص موضوعات النسب، يقلب هذا التسامح إلى عصبية حساسة جدا. أما الصدمة الثانية حدثت لها عند زواج زوجها من زوجة ثانية، بسبب عدم قدرتها على الإنجاب وهذا العذر الشرعي الذي لم تستسيغه الشخصية وتأخذ من هذا الحدث فرصة للتعبير عن إحساسها بالقدرية التي تحاصرها وأمها.. فتاريخهما الشخصي يعيد نفسه. مثلما تقول الساردة: «حاولت ألا أكون مثلها ولكن الأحداث دارت بي لتصل إلى النقطة نفسها، حكم قدري علينا».(الرواية، ص 118) وفي موضع آخر تكرر هذه الفكرة بحسرة شديدة بقولها: «آه يا أمي. كلانا يكرر قصة منسوجة بيد شيطانية». (الرواية، ص:134) عند تحليل مواقف الشخصيتين تجاه الأحداث الصادمة الواقعة عليهما، يبدو أن ردة فعل الأم حادة على رجل تركها لأنه وجد امرأة أجمل منها ولم يحده حد أن يغير اختيار خاطئ حتى لو تسبب في شرخ علاقة أسرية كاملة مما يفضح نرجسية كل من الأب وأخت الأم. وهنا الشطي يوجه نقده الحاد لهذه النماذج البشرية البسيطة في وعيها والمنحرفة عن مفاهيم الذوق العام والحس الإنساني المشترك والأعراف والأخلاق، مسلطا الضوء على سمات الإنسان البدائي في مرحلة غياب التعليم وانعدام الوازع الإنساني.. تتناسب ردة فعل الأم مع طبيعة الفعل الصادم الموجه لها من قبل طليقها وأختها فقررت وفق قدرات فهمها المتواضع أن تنتقم منهما بأخذ ممتلكاتها منهما وحرمانهما من التمتع بها.. ولكن الشخصيات الأكثر حظا في التعليم تقوم بالانسحاب بهدوء فإسماعيل يقرر الانسحاب من العلاقة كي لا يهدد هذا النسيج المنسجم ولا يمس هذا العصب الحساس، وفوزية تقرر الطلاق من ابن عمها وترحل بهدوء وسلام.. فهنا تتضح قضية دور المعرفة في تهذيب النفس الإنسانية والتحكم في انفعالاتها... وردود أفعالها.. التي لم تتحقق لدى الجيل الأول من الآباء والأمهات في الرواية. في نهاية الرواية، تستطيع فوزية تحقيق ذاتها بالطلاق من نجيب، وممارسة دورها الثقافي في الكتابة عن قضايا المرأة وإلقاء محاضرات حول هذه القضايا الشائكة، مما يعني أنها في آخر الرواية استطاعت جر عربة حياتها بنفسها بدلا من أن يجرها الآخرون في الماضي: «عربة حياتي يجرها العقلاء». * ناقدة وأكاديمية كويتية