×
محافظة المنطقة الشرقية

التركي: لا علاقة للمتورطين في أحداث العوامية بالتنظيمات الإرهابية

صورة الخبر

إذا كان هناك من إشكال نقدي كبير ما زال يواجه النقاد والمستشرقين في ميدان الدرس الإسلامي الباكر، فلن يكون سوى إشكال مسألة ظهور الإسلام في البواكير الأولى من تاريخه وتأثير هذا الظهور في مجرى التاريخ العالمي، سياسياً ودينياً؛ وذلك في المرحلة التاريخية التي غدت في السنوات الأخيرة ميدانَ إغراء كبير في الساحات النقدية الغربية، أي «العصر القديم المتأخر». وإذا كان هناك من درس نقدي وتحليلي مهمّ استطاع، بما أمكن، الإحاطة تحليلياً والإجابة عما يطرحه ذلك الإشكال، فلن يكون سوى ما قدمه البروفيسور عزيز العظمة من خلال كتابه الذي صدر عن منشورات جامعة كامبريدج «صعود الإسلام في العصر القديم المتأخر» (The Emergence of Islam In Late Antiquity, Allah And His People, Cambridge University Press, 2014). مع أخذه في الاعتبار أنّ لا العصر القديم المتأخر ولا الإسلام يمكن أن يُشكل كلٌّ منهما بنفسه موضوعاً في البحث التاريخي، فإن الكتاب لا يدرس الإسلام إلا وفق الشروط التي أحاطت بالتاريخ الواسع والعريض للعصر القديم من خلال عمليات التحقيب (periodisation) والتصنيف (categorisation). إننا هنا أمام ميثودولوجيا تاريخانية إبداعية تمثل انقلاباً على معظم الميثودلوجيات الاستشراقية والنقدية المعهودة، فضلاً عن تقديمه رؤى تاريخية جديدة، وتحديداً في مقابل التنميطات الدرسية شرق/غرب، وذلك حينما تُدرس الحواضن التاريخية التي ولد في ظلها الإسلام. فالكتاب يعتمد على الدلائل النقشية والنصية، والأركيولوجية المادية، وحتى التراثية من نافذة رؤية تفسيرية واسعة للتطورات والإمكانات التاريخية التي أحاطت بولادة الإسلام. البيئة المكانية هي شبه الجزيرة العربية وسورية وما يتصل بهما؛ أما البيئة الزمانية فهي الفترة التي تمتد ما بين 600 و750م. هذا هو المجال البحثي للكتاب في العصر القديم المتأخر. إنه لا يدرس هذا العصر هو «و» الإسلام، بل الإسلام «في» العصر القديم المتأخر: الإسلام كدين مسكوني وكنظيمة إمبراطورية انبثقت من سياقات إمبراطورية؛ بمعنى الإسلام كدين توحيدي انبثق من النظيمات التوحيدية والتطورات الدينية؛ وكنظام امبراطوري حيث العصر هو عصر الامبراطوريات، والامبراطورية العربية لم تكن استثناء من هذا. إنه يعيد درس التطورات التوحيدية للإمبراطورية الرومانية ولا ينظر الى العرب في هذا إلا بكونهم جزءاً من هذه التطورات. من هذه الزاوية يدرس انبثاق التوحيد العربي في شمال وشمال غربي شبه الجزيرة العربية مقارنة مع اتجاهات توحيدية أخرى. وفي هذا السياق، يغدو من المهم التركيز على الاصطلاح الفريد الذي درسه عزيز العظمة ودرس استحقاقاته وتطوره في المحيطات الدينية العربية، ألا وهو «باليو-إسلام Paleo-Islam» (الإسلام القديم، الإسلام من حيث تموضع إمكاناته في القدم وفي البيئات السياسية والدينية التي أحاطته) وما يرتبط بهذا الاصطلاح من نظيمات دينية مقدسة تشير إلى عمق ترابط الإسلام بمحيطه التاريخي القديم العريض والمعاصر له. يتناول الفصل الأول الحمولات التاريخية العامة؛ ثم يتبعه في الفصل الثاني تفسير التطورات الدينية في العصر الهلنستي والعصر القديم المتأخر؛ ثم يتناول الفصل الثالث الإثنيات العربية وفق التطورات الداخلية وتأثير إمبراطوريات العصر القديم المتأخر عليهم. أما الفصل الرابع، فإنه يكتسي أهمية كبرى في الكتاب؛ لأنه يدرس من خلاله التطورات الدينية القديمة وعبادة الإله الواحد، ومع درس أشكال التوحيد الأخرى عند العرب وانبثاقها من البيئات القديمة. الكتاب مرة أخرى يوسع مجال درسه في الفصل السادس. فتحت عنوان عريض «النظام الكاريزمي» يدرس تكوين نظام باليو-مسلم وتطوراته الداخلية وتوطيداته الخارجية وبدايات ما سيعرف لاحقاً بالإمبراطورية العربية للأمويين التي تموضعت في الأراضي السورية وكيف زاوجت هذه الإمبراطورية بانطلاقتها مع الإمكانات المتوافرة حينها (يشدد الكتاب على أن ما عرف بالحضارة الإسلامية لم يكن سوى حضارة غرب آسيا، وليست سبباً أو نتيجة لمرحلة العصر القديم المتأخر، لكنها تبلورها الناجح)؛ ويدرس الفصل السابع تفسير نظيمة الكتاب وتطوراتها في بدايات تكونها وما يرتبط بذلك... أما الفصل الثامن والأخير، فإنه يتناول تقديم رؤى ختامية في موضعة الإسلام في العصر القديم المتأخر ومسألة استمرار الامبراطورية العربية المسلمة مع الامبراطوريات السابقة، ثم لتشق طريقها وفق الإمكانات التاريخية. التحدي الكبير كيف بالإمكان موضعة هذا الكتاب عربياً وإسلامياً، وبخاصة في ظل الاصطلاحات الصعبة الممتلئ بها؟ إنّ الكتاب إضافة إلى أنه يجيب عن أسئلة نقدية دقيقة، فإنه «يؤشكل» كثيراً من القضايا والمناهج الدراسية التي طرحتها تلك المدارس. وأخيراً، ماذا يعني هذا الكتاب؟ مرةً عبّر مستشرق أميركي، هو فرد دونر، عن حالة الدراسات الإسلامية في الغرب بأنها «في حالة من الفوضى». إذا كان الأمر هكذا في النقد الغربي، ماذا بالإمكان القول إذاً في الميادين الدراسية العربية؟ لا شك في أنّ الحال مؤسفة بكل المقاييس. الكتاب هذا هو من أشد الكتب ضبطاً لتلك الفوضى، وفي الوقت نفسه يمثّل فتحاً جديداً أمام الأسف العربي المترهل. ربما من المهم التأكيد أنّ القارئ العربي قد يتفق أو يختلف مع النتائج المذهلة التي يتوصل إليها، وبخاصة أن الكتاب ليس موجهاً أساساً للقارئ المطمئن مسبقاً لإجاباته ومواقفه، بمقدار ما هو موجّه الى القارئ القلق. فأنْ يُتفق أو يُختلف معه، فهو شأنٌ صغير أمام ما يطرحه من تحديات نقدية وتحليلية تاريخية جمة. من هنا ضرورة الكتاب القصوى. ولا نكون مغالين إذا قلنا إنه قد أتى بعد طول انتظار أمام التخبط اللاتاريخي المفروض سواء من جانب المدارس الاستشراقية التي تتظلل بـ«الاستشراق التنقيحي» (الجديد) أو الاستشراق الكلاسيكي المتصلب، أو حتى المدارس النقدية العربية التي تكرر مقولاتها بالشرح وشرح الشرح والاستفاضات على الشرح. عزيز العظمة مرةً أخرى يقدم إمكانية تحليلية تاريخية رصينة لصعود الإسلام، إمكانية مبنية وفق بارادايم عقل نقدي تاريخي، يجب الغوص فيه. آداب وفنون