لعل الشيء المفرح هو أنّها لم تفرّط بشروطها وتقاليدها العريقة التي تأسست من أجلها، ألا وهي روحها العربية النقية وصرامتها في تحديد الجودة الأدبية لما ينشر فيها. العربمحمد حياوي [نُشرفي2017/01/15، العدد: 10513، ص(15)] أكثر من ستين سنة استمر صدور مجلة الآداب العريقة كمحفة للإبداع العربي الخالص، تحديداً منذ العام 1953 حتّى العام 2102 بعد أن توقفت ورقياً نتيجة للأزمة المالية وانتشار الفوضى والاضطرابات في عالمنا العربي وتبدد لُحمة المشهد الثقافي. لقد شهدت مجلة الآداب منذ تأسيسها في العام 1953 على يد المفكر العربي الكبير سهيل إدريس، الكثير من الأزمات التي فرضها الواقع السياسي العربي آنذاك، لا سيما في لبنان، مما اضطر مؤسسها إلى مغادرة بيروت لفترات متقطعة، لكن لم يكن ذلك ليفتّ في عضد المجلة أو يوهن عزيمتها ونهجها الذي اختطّته منذ بواكير تأسيسها، ذلك النهج القائم على شرط الجودة وثبات المواقف السياسية العروبية التي عُرفت عنها، وفي أحلك الظروف والأزمات التي مرّت بها المجلة لم يتنازل القائمون عليها عن هذه الشروط التي تحولت مع مرور الوقت إلى عرف معياري نقدي صعب من شأنه منح الشرعية النقدية لمن ينشر فيها من المبدعين العرب، الأمر الذي أسهم إلى حدّ ما في بلورة أجيال أدبية مرموقة في ستينات القرن الماضي وما بعده، واستمر القائمون عليها بإصدارها على الرغم من الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة التي كانت تواجههم وحجم التحديات الكبيرة، ولعلها المجلة الأدبية العربية الوحيدة التي استمرت بالصدور منذ خمسينات القرن الماضي من دون توقف حتّى العام 2012، عندما اتخذت هيئة تحريرها قراراً بالتوقف بعد أن رأت صعوبة الاستمرار في ظل واقع عربي مشتّت تنتشر فيه الفوضى السياسية وتنعدم فيه الضمانات الخاصّة بحماية المطبوع، ومع ذلك لم يستمر توقفها القسري هذا سوى ثلاث سنوات فقط، إذ قررت دار الآداب، وهي الجهة الناشرة للمجلة وورثة الراحل الكبير سهيل إدريس، إعادة إصدارها وإن بشكل إلكتروني متقن من أجل مواكبة التقنيات الجديدة واستغلال الإمكانيات التي توفرها لتجاوز واقع التوزيع الصعب، فتحول إصدارها إلى شكل أثيري مفتوح على العالم أجمع، وصارت تكسب القرّاء تلو القرّاء حتّى بلغ متابعوها الآلاف من العالم العربي والعالم. ولعل الشيء المفرح هو أنّها لم تفرّط بشروطها وتقاليدها العريقة التي تأسست من أجلها، ألا وهي روحها العربية النقية وصرامتها في تحديد الجودة الأدبية لما ينشر فيها. واليوم، وبعد مرور أكثر من أربع سنوات على صدورها بشكل إلكتروني منتظم وبواقع عدد واحد كل ثلاثة أسابيع، يعود الحنين إلى الإصدار الورقي الذي مازال يداعب خيال سماح إدريس، رئيس التحرير وكادر المجلة الصغير، لتولد فكرة إصدار عدد ورقي منها ولو سنوياً يتضمن مختارات مما نُشر في الأعداد الإلكترونية على مدى سنة واحدة بواقع أكثر من 300 صفحة من القطع الكبير، ولم أصدّق الخبر حين اتصل بي الصديق يسري الأمير، مدير تحرير المجلة طالباً مني وضع تصور تصميمي لشكل الغلاف الخاص بالطبعة الورقية. الآن وعلى هامش معرض بيروت العربي الدولي للكتاب وفي جناح دار الآداب العريقة جرى الاحتفال بإطلاق النسخة الورقية السنوية للمجلة بطباعة غاية في الأناقة والإتقان، فكانت الأصداء التي خلّفها رائعة وبحضور إعلامي واسع، لكن اللافت للانتباه هو شخصية رئيس التحرير سماح إدريس المرحة والرقيقة وروحه العربية الأصيلة وقدرته على مخاطبة جمهورها من قرّاء كتبه الأطفال وشعبيته الواسعة في أوساط القرّاء الشباب ككاتب وناشر، لا سيما قرّائه الشباب من فلسطينيي مخيم عين الحلوة الذين أحاطوه بحب في مشهد أعاد للأذهان مواقف تلك الدار العريقة وثباتها على المبادئ العروبية. يقول سماح في معرض حديثه عن الإصدار الورقي، “رائحة واحدة أفضلها على جميع العطور، إنّها رائحة الورق الغارق في حبر المعاناة”، وبالنسبة إلى هؤلاء المتشائمين أو المحبطين من تردّي الأوضاع السياسية في العالم العربي وتراجع المطبوعات الورقية، أقول مازال الأدب بخير ومازالت رائحة الورق تبث عبيرها الآسر في النفوس مهما ادلهمّت التقنيات. كاتب من العراق محمد حياوي :: مقالات أخرى لـ محمد حياوي مجلة الآداب عنقاء الورق, 2017/01/15 انتشار الكاتب, 2017/01/08 الكتاب والتقاليد الضارة , 2017/01/07 مأساة النمرود ومآسي الأجيال , 2016/12/11 خطر الأيديولوجيات والتاريخ المدلس على الناشئة, 2016/12/04 أرشيف الكاتب