×
محافظة المنطقة الشرقية

«الجوازات» تنفي إطلاق حملة تصحيح الأوضاع

صورة الخبر

جئته سعيداً متلهفاً بسبب ما بلغني عنه من أخبار، إلا أنني كنت متوجساً في الوقت نفسه ومشفقاً على من زكَّاني له؛ فقد وصلتني التأشيرة مشفوعة برسالة بليغة، موجهة لأحد أصدقائه في سفارة خادم الحرمين الشريفين بالخرطوم لمساعدتي في إنهاء إجراءات سفري بسرعة ما أمكن؛ مذيَّلة بجملة لم أنساها، ولن أنساها ما حييت، تقول: (أرجو أن يكون عند حسن ظنّنا). وهذه الجملة، هي التي كانت حقاً محل توجسي، لأنني أدرك يقيناً، أنه ليس من المروءة في شيء أن يخذل الإنسان من يظن به خيراً. وعندما وضعت حقائبي وتشرَّفت بلقائه في اليوم التالي لوصولي الرياض، تبين لي أنني أمام رجل كبير، يستحق أن أبذل كل جهد ممكن لكي أكون فعلاً عند حسن ظنِّه، كما تمنى، فلا أخذله. فسعدت بصحبته وتشرَّفت بالعمل لديه لربع قرن تقريباً، وشعاري دوماً: ألا أخذله أبداً. ووجدت فيه جامعة شاملة، وموسوعة من القيم النبيلة والمعرفة الغزيرة الأصيلة في التاريخ، الأدب، اللغة، الدِّين، السياسة، الدبلوماسية، الفكر الرَّصين، المعرفة العامة الشَّاملة في كل شيء والحدس المتقدم، الذي يستشعر أحداث قرون من حادثة وحيدة، مهما كانت بسيطة. وأذكر في هذا تعليقه يوم الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، عندما لطم كف الإرهاب الأعمى برجي التجارة في مانهاتن بالولايات الأمريكية المتحدة، فكان تعليقه الموجز، الذي جاء مشحوناً بكم هائل من القراءة والتحليل المتقدم لما قد يحمله المستقبل في طياته، إثر ما يمكن أن تنطوي عليه ردة فعل الأمريكيين تجاه تلك الحادثة البشعة، التي مثَّلت منعطفاً خطيراً في حياة العالم كله: (اليوم بدأ تغيير تاريخ العالم.. الله يكفينا شرَّهم). أقول، جئت الشيخ عبدالرحمن بن سليمان بن عبدالرحمن الرويشد، -طيَّب الله ثراه وجعل الجنة مثواه-، وأنا لا أزهد في شيء من العلم والمعرفة، مثل زهدي في التاريخ. أما اليوم، فلا أعشق شيئاً من العلم والمعرفة مثل عشقي للتاريخ.. قرأت له تاريخ هذه الدولة السعودية المباركة التي تحظى في نفس جميع العرب والمسلمين بمكانة عظيمة، تفوق ما يجدونه من مكانة لبلدانهم الأصلية، بسبب ما تمثله لهم من قيمة عقدية.. قرأت له تاريخها منذ لقاء الدرعية التاريخي الشهير عام 1157هـ - 1744م، الذي جمع بين الإمام محمد بن سعود بن محمد بن مقرن، وبين الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فبايع الثاني الأول، وأشرقت على الكون شمس الدولة السعودية الأولى.. فكنت أسمع في حديث الشيخ عبدالرحمن الرويشد العذب المتدفق، وروايته الممتعة للأحداث، صوت تلك المرأة الصالحة، موضي بنت وطبان، أو بنت أبي وطبان في رواية أخرى كما يقول الشيخ الرويشد المؤرخ العالم، التي تعود إلى آل كثير من بني لام، زوجة الإمام محمد بن سعود، كنت أسمع في روايته، مشورة تلك المرأة الرشيدة التي غيَّرت وجه تاريخ شبه الجزيرة العربية إلى الأبد. ثم أفول نجم الدولة السعودية الأولى، ليبزغ فجرها من جديد في دورها الثاني، على يد البطل المقدام الإمام تركي بن عبدالله ابن الإمام محمد بن سعود؛ فكنت أرى دم الأعادي الذين كان يجندلهم يقطر من سيفه الأجرب. ثم ما اكتنف الدولة السعودية الثانية من أحداث، حتى ذهابها وعودة المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل آل سعود، في ملحمة استعادة الرياض، التي انطلقت من الكويت في ربيع الآخر 1318هـ - يوليو 1901م. فكنت أسمع وقع خف الإبل على الرمال في رواية الشيخ المؤرخ الرويشد، وبقيت مع الركب في رمال الجافورة لخمسين يوماً، ومسَّني ما ذاقوا من نصبٍ وتعبٍ بسبب الظروف البيئية المحيطة وقلة الزَّاد. وبعد استعادة الرياض عام 1319هـ - 1902م، وانطلاق شعلة الدولة السعودية الحديثة التي يتفيأ العالم ظلالها الوارفة اليوم، حدَّثني الشيخ الوجيه الراحل الرويشد، عن الملك عبد العزيز وصفاته القيادة النادرة: شجاعته، حكمته، ذكاؤه، صبره، طموحه وآماله لشعبه وأمته، صدق نيَّته، ثقته بربه وخشيته له وصدق توكله عليه، سعة صدره ونزوعه إلى السِّلم مع كل من خالفه أو عاداه، إلا من أبى وعن كرمه. وأعرف أن كل من قرأ تاريخ هذا الرجل الصالح، عبدالعزيز آل سعود، يعرف عنه ربما أكثر مما أعرف؛ لكن أكثر شيء أدهشني حقاً في صفات هذا البطل المؤمن الصادق، هو عدله، الذي شبهه كل من كتب عنه بعدل الفاروق عمر.. وصف لي الشيخ الرويشد حالات نزاع كثيرة، كان عبدالعزيز يقف فيها مع خصمه كتفاً بكتف أمام القاضي. وفي كل مرة ينصفه القضاء على خصمه حسب الشرع الذي هو دستور الدولة، يرسل عبدالعزيز إلى خصمه بعد انتهاء الجلسة، فيطيِّب خاطره بالعطايا، فيرضيه. وبجانب عدل عبدالعزيز، أدهشني في حديث الشيخ الرويشد عنه، تواضعه؛ إذ كان قومه ينادونه كأي واحد منهم: يا أبو تركي، يا طويل العمر، أو حتى يا عبدالعزيز.. هكذا. فيجيبهم عبدالعزيز الرجل الكبير، ولا يرى أنهم انتقصوا شيئاً من قدره، لأنه لم يكن يزهد في شيء مثل زهده في الألقاب. كما أدهشني أيضاً في حديث الشيخ الرويشد عن الملك عبدالعزيز، كرمه؛ إذ يقول: لم يكن الملك عبد يمد يده إلى المائدة، في الحل والترحال، إلا إذا اطمأن أن جميع من اعتادوا تناول الطعام على مائدته قد حضروا، و لا يرفع عنها إلا إذا تأكد أن الكل قد أخذ حظَّه، وكان بين هذا و ذاك، يؤانسهم وينتقي أطايب الطعام بيده الكريمة فيقدمها لهم ويحثهم على تناولها. والحقيقة، حديث المؤرخ الراحل الشيخ الرويشد، -رحمه الله وجعل الجنة مثواه-، عن هذه الدولة المباركة وعن مؤسسها وتاريخه وصفاته، يكاد لا ينتهي، إلا أنني أردت أن أؤكد هنا، أنني وجدت في هذا الرجل الموسوعي، صدقاً وإخلاصاً لعقيدته و ولاءً لقيادته وحباً لوطنه، يمكنني القول إنه تجاوز مرحلة العشق إلى الهيام، لم أعرفه في حياتي لشخص غيره.. كان غيوراً ومنافحاً عن هذه الثوابت في السِّر والعلن، لا يغره مديح مادح ولا يثني عزمه قدح قادح. وقد كنت أول شاهد على جهد الرجل من خلال عمله لعشر سنوات بالتمام والكمال في التوثيق لنسب العائلة المالكة السعودية الكريمة، حتى ظهر كتابه (الجداول الأسرية لسلالات العائلة المالكة السعودية) في طبعته الأولى، الذي كان يعد لإعادة طباعته للمرة الرابعة، إلا أن الأجل لم يمهله. ثم أرفق الكتاب بمشجرة، استغرقت منه ما لا يقل عمَّا بذله في الكتاب من جهد وعمل دؤوب، أعاد طباعتها كلما أعاد طباعة الكتاب؛ وسافر من أجلها إلى الصين، وإلى تركيا وغيرها من البلدان لتنفيذها. هذا بالطبع غير مؤلفاته العديدة لتوثيق التاريخ الوطني، وتحقيق بعض الكتب التي سبقني إلى الإشارة إليها معظم من كتب عن فقيدنا العزيز الغالي الشيخ عبدالرحمن الرويشد. وكحديثه عن الملك عبدالعزيز، كان الشيخ عبدالرحمن أيضاً دائم الحديث عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، -حفظه الله ورعاه-؛ فكان يقول عن مقامه السَّامي الكريم، إنه أشبه أبناء عبدالعزيز بوالدهم خَلْقَاً وخُلْقَاً، وأحسب أنني لست في حاجة لتأكيد حقيقة يدركها الكل. إذ يكفي أن الجميع يسمع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله ورعاه-، يؤكد دائماً: يستطيع أيّ مواطن هنا أن يرفع دعوى ضد الملك أو ولي عهده أو أيّ فرد من أفراد الأسرة. ثم يضيف: أبوابنا كلها مفتوحة للجميع في أيّ وقت. وقد سمعت الكثير عن حكايات عدل سلمان من أصحابها مباشرة وشهدت بعضها، وهي حكايات تقشعر لها الأبدان من شدة حرص مقامه السَّامي الكريم على إحقاق الحق ونصرة المظلوم أيَّاً كان.. وهو عدل لا أعرف له شبيهاً غير عدل عبدالعزيز. رحم الله أبا إبراهيم، كنت عندما أجلس إليه، أجد في روايته للتاريخ عبق (دروازات) الرياض القديمة: الشمسية، الثميري، القري، مصدة، آل سويلم، دخنة التي كانت تعرف بـ(الدروازة الكبيرة)... إلخ؛ إضافة لعبق أحياء الرياض القديمة: معكال، الصليعا، صياح، الدحو، حلة القناعي، القري، المريقب، الشرقية وحي الوسيطاء، حيث كان منزل والده -عليهما رحمة الله ورضوانه-. فاستمتعت كثيراً بالاطلاع على تاريخ هذه الدولة الفتية، لاسيما تاريخ مدينة الرياض التي تحولت اليوم من مدينة صغيرة محاطة بسور إلى حاضرة عصرية تنافس كبريات مدن العالم في التنمية والعمران والتطور والتنظيم؛ فتجولت مع الشيخ عبدالرحمن في أسواقها؛ من سوق الزَّل، إلى سوق العطارين، فسوق الخياطين وسوق البَزَّ وسوق الحريم فسوق الحلاقين، حيث شهدتهم يخلعون الأسنان ويختنون الأطفال. كما اطلعت على عادات أهل الرياض قديماً في الأفراح والأتراح، فحضرت حفلات الزواج وشيَّعت الموتى مع جموع المشيعين؛ وأكلت الحنيني والعصيدة والقرصان والجريش، ولبست المرودن والفروة والعقال المقصَّب، وجلست بين الجمع في المشراق وفي الصفاة التي كانت بمثابة وكالة الأنباء السعودية اليوم. أجل، كان للراحل الكبير الأديب المثقف المؤرخ القدير الشيخ عبدالرحمن الرويشد، اهتمام شديد بالعلم والمعرفة، لاسيما ما يتصل بالتاريخ والحرص على توثيقه، ولهذا اقتنى مكتبة هائلة، فيها عشرات آلاف الكتب في مختلف العلوم والمعارف، وسافر كثيراً ليستمع لروايات الثقاة الذين عاصروا المؤسس وشهدوا مولد المملكة وعاشوا زخم تلك الأحداث. ومن اهتمامه بالوثائق التاريخية، كان له اشتراك دائم في الجمعية الجغرافية الملكية في بريطانيا، تزوده بكل ما لديها وكل جديد في تاريخ المنطقة من خلال إصدارها الدوري. وصحيح، قد يبدو هذا كله معروفاً لدى كل من عرف الراحل الشيخ عبدالرحمن الرويشد، -رحمه الله وجعل الجنة مثواه-، إلا أنه ثمة جوانب أخرى في شخصية الرجل لا يعرفها إلا المقربون منه أو من تشرَّف بصحبته وملازمته؛ إذ كان يد خير، ساعد كثيراً من الأسر في التغلب على ظروف الحياة، بل تكفل بمتطلبات بعضها من الألف إلى الياء، دون أن يسمع أحد منه شكوى أو تذمُّراً، بل كان يسعد كثيراً بهذا العمل؛ إضافة إلى أنه كان شديد الاهتمام بحال الأمتين الإسلامية والعربية.. كثير الحديث والأسف على ما كان عليه حال العرب والمسلمين من عزٍّ وتمكين وما صاروا إليه اليوم من حال لا يسر صديقاً ولا يغيظ عدواً. وكان يرى أن الحل الوحيد لاستعادة المجد التليد يكمن في تربية الأجيال وتنشئتها تنشئة سليمة، ولهذا السبب في تقديري، أصدر (مجلة الشبل) وجعل شعارها (مجلة الطفل العربي المسلم)، وخصَّها بكثير من وقته وجهده، وكان يرسلها دون مقابل لأطفال كثر في كثير من البلدان العربية والإسلامية، خاصة البلدان الإسلامية غير العربية، في إفريقيا وآسيا، ولأطفال الأقليات المسلمة في الغرب؛ ويؤكد على ضرورة الاهتمام بنشر كل ما يرسلونه من مشاركات مهما كانت متواضعة، تحفيزاً لهم؛ بجانب دعمه لكل موهبة تتواصل عبر المجلة. وأذكر أن طفلاً من مدينة العيون بالأحساء، لا يحضرني اسمه، كان دائم التواصل، وكانت مشاركاته متميزة؛ فكان الشيخ عبدالرحمن الرويشد يرد عليه أحياناً بنفسه، ووجَّه بنشر كل ما يكتب، وخصص له اشتراكاً مجانياً تشجيعاً له. فظل يتواصل مع المجلة حتى تخرج في الجامعة وصار معلماً، وكتب رسالة مؤثرة يعبر فيها عن امتنانه لـ(مجلة الشبل) وصاحبها. وبالطبع، ما كان لرجل مثل الشيخ عبدالرحمن الرويشد، مسكوناً إلى تلك الدرجة بعشق الوطن وهذه الأرض الطيبة المباركة، أن يغفل الدور الوطني في رسالة المجلة، الذي يمثل الغاية الأهم من إصدارها. فخصَّص جائزة سنوية للأشبال بمناسبة اليوم الوطني من كل عام، تشجِّع أسئلتها الصغار على معرفة تاريخ بلادهم وجغرافيتها ومجتمعها وعاداتها وتقاليدها وأهمية مقدساتهم، وجهد قادتهم، ودور بلادهم في ريادة العرب والمسلمين... إلخ. وظل يقاوم كل الظروف ويصدر تلك المجلة التي كانت فعلاً فريدة في نهجها، حتى بعد انتشار التقنية الحديثة التي سرقت كثيراً من قراء (الشبل). ومن الجوانب الأخرى في حياة الفقيد الشيخ عبدالرحمن الرويشد، عاطفته الجياشة ورقَّة قلبه وتأثره الشديد لكل خبر محزن يحل بالأمة الإسلامية ولكل من يبتلى بمصيبة، حتى من لا يعرفه شخصياً؛ إضافة إلى تواضعه الجَّم واحترامه الشديد للرأي الآخر. كما كان بجانب هذا كله، إدارياً ماهراً، يستمع لكل من له رأي فيما يتعلق بالعمل، ولا يرى ضيراً في الأخذ برأي أبسط موظف أو عامل لديه، بل كان يشجع الجميع على التفكير والابتكار والإدلاء بكل ما يجول في خاطرهم من آراء، ولم يكن يبخل أبداً بمعرفة أو خبرة؛ فكان دائم التوجيه بأسلوب الوالد المربي المشفق على أبنائه، لا بأسلوب الزجر والتوبيخ وافعل أو لا تفعل؛ ولهذا عمل معه الجميع لأكثر من عشرين سنة، دون أن يفكر أحد في ترك العمل لديه، حتى من وجد عرضاً أفضل لدى الغير. كما كان بجانب هذا، شديد الاهتمام بالوقت، مقدِّراً لقيمة العمل والإنجاز، فتراه أحياناً كثيرة يعمل على أكثر من شيء في الوقت نفسه؛ فرجل طموح مثله، لا بد أن يدرك جيداً، أن العمر لن يتسع لتحقيق كل الآمال مهما طال. أما على الصعيد الشخصي، فقد استفدت كثيراً من ملازمتي له، وأحسب أنني حصلت على معرفة ما كان لي أن أحظى بها حتى في أرقى جامعات العالم؛ فهذه هي التي يسمونها (جامعة الحياة) التي تعد الجامعة الحقيقية التي يتعلم الإنسان فيها كل يوم شيئاً جديداً من خلال العمل، لا التنظير. خاصة من يُحظى بفرصة عمل مع رجل شامل محب للخير للجميع كفقيدنا الكبير الغالي الشيخ عبدالرحمن الرويشد. ولا يفوتني أن أذكر أيضاً أن عملي مع الراحل الشيخ عبدالرحمن، -رحمه الله-، أتاح لي التَّعرُّف على كثير من وجهاء المجتمع في مختلف المجالات، الذين كان يزورونه باستمرار، فقد كان بابه مفتوحاً للجميع، وكان مكتبه صالوناً أدبياً عامراً بالجلساء.. إضافة إلى قائمة طويلة عريضة لأصدقاء كثر في معظم البلدان العربية، الذين كانوا يهاتفونه دائماً ويزورونه من وقت لآخر؛ فضلاً عن مواقفه الأبوية العديدة التي تجلُّ عن الوصف، ليس معي فحسب، بل مع كل من حظي بفرصة العمل لديه. ولهذا نفتقده اليوم نحن أيضاً، إن لم يكن أكثر من أبنائه، فليس أقل من فقدهم له، إذ كان الرجل أباً للجميع؛ وربما لهذا السبب تأخرت في كتابة رثائي له، فكلما جلست لأكتب يأتيني صوته من بعيد وهو يحدثني في شئون العمل أو يروي لي حكاية من التاريخ الذي تشرَّبت نفسه به أو يتحدث إلى ضيوفه بأريحيته المعهودة ويمازحهم أو يستجيب لحاجة محتاج. كنت أتمنى صادقاً أني أستطيع أن أكتب أكثر عن شخصية هذا الرجل الفاضل الأديب الأريب المثقف المؤرخ المربي المفكر الجليل، الذي أدين له بالكثير، وعلاقتي التي استمرت لربع قرن تقريباً بصحبته؛ لو لا غصة في الحلق بالكاد سمحت لي أن أكتب هذا القدر اليسير، الذي أرى فيه أقل الوفاء لرجل كبير كريم، كنت أرى فيه والدي، لا صاحب عمل فحسب. وصدق الشاعر محمد إقبال، إذ يقول: (إن حزننا على عزيز مات ليس لأنه مات، فالموت حقيقة وحق، بل يعتصر الحزن النفس بسبب فقدان القيم والفضائل التي كان يجسدها الفقيد بيننا وهو حي، فتذبل شجرتها وتموت بعد أن يغلق عليه القبر). والتحية والشكر والتقدير لخادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، -حفظه الله ورعاه-، معلِّم الناس الوفاء والبذل والعطاء، الذي زار فقيد الوطن والتاريخ الشيخ عبدالرحمن الرويشد، عندما كان يستشفي مما ألمَّ به من ألم في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، واستقبل إخوته وأبناءه وأحفاده وعزَّاهم فيه. والتحية والشكر والتقدير لصاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر بن عبدالعزيز آل سعود، أمير منطقة الرياض، الذي جاء يمشي على خطى سلمان، فوجَّه أمانة منطقة الرياض بتسمية أحد شوارع مدينة الرياض باسم الشيخ عبدالرحمن بن سليمان الرويشد. والتحية والشكر والتقدير موصول لكل من رثاه وعزَّى فيه ودعا له. وصادق العزاء والمواساة لإخوته ولأبنائه ولزوجته تلك المرأة الصالحة وبناته وأحفاده وجميع أفراد أسرته ومحبيه.. ولقلمه ومكتبه ومكتبته، ولما تركه بيننا من إرث يظل يحمل عبقه الزَّكي الوفي إلى الأبد، والعزاء موصول للتاريخ الذي عشقه وللوطن.. كل الوطن، الذي طالما اعتز بأمجاده، وأفنى عمره في توثيقها ما وسعه الجهد. وختاماً، لا يسعني إلا الابتهال إلى الله الرحمن الرحيم، بلسانٍ صادقٍ وقلبٍ خاشعٍ، أن يرحم فقيدنا الغالي العزيز الشيخ/ عبدالرحمن بن سليمان بن عبدالرحمن الرويشد، ويجعل نزله الفردوس الأعلى من الجنة؛ لا بقدر حبنا له ودعائنا، بل بقدر لطف الله ورحمته التي وسعت كل شيء.. و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.. وإنَّا على فراقك لمحزونون يا أبا إبراهيم. - نور الدائم بابكر عبدالله