عام 1955 وفي الطابق الخامس من صالة سينما الكابيتول وفي مدينة لايبزغ في ما كان يسمى «جمهورية ألمانيا الديمقراطية» اجتمع عدد من السينمائيين التسجيليين في العالم ليقرروا تأسيس مهرجان عالمي للفيلم التسجيلي. وهؤلاء السينمائيون هم من رواد السينما التسجيلية في العالم ومن مؤسسيها ومبدعيها وهم «جون جرير بوزاك، محمد الأخضر حمينا، البرتو كافلكانتي، ريتشارد البابوك، بوزان بوفار، دوسيك فوكوتيك، تيودور كريستينسن، رومان كارمن، الياكو فالين، مانوئيل أكتافيو، سانتياغو الفارز، هايتوفسكي شويمان، كارل كاس، وأنيلي تورينداك» وناقشوا على مدى أسبوع كامل «أية مبادئ يجب أن تسود أسبوع الأفلام التسجيلية الذي تقرر إقامته في هذه المدينة. وقرروا أن يكون شعار المهرجان «أفلام العالم من أجل سلام العالم» وكتبوا إلى «بيكاسو» لكي بوافق على اتخاذ حمامته التي رسمها شعارا لمهرجان لايبزغ للأفلام الوثائقية تحت ذلك الشعار المرتبط بالحمامة والحمامة المرتبطة بشعار «أفلام العالم من أجل سلام العالم» مهرجان لايبزغ هذا تاريخ حافل في التطورات المتعلقة بالفيلم التسجيلي، فكثير من السينمائيين في العالم يولون الفيلم التسجيلي أهمية بالغة لعلاقته المباشرة بالواقع. هذا الواقع الإنساني الثري بالأحداث والمشكلات التي يشكل الفيلم التسجيلي مرآتها الصافية والناصعة، حيث يعتبر أولئك التسجيليون أن الفيلم الروائي كثيرا ما ينظر إلى الواقع من خلال المخيلة والرؤية الذاتية للمنتج، فيما الفيلم التسجيلي يتعامل بشكل أكثر مباشرة مع الواقع. وعلى مدى خمس وثلاثين عاماً تمكن هذا المهرجان من إرساء قواعد الفيلم التسجيلي وتبلورت لغته التعبيرية وأصبح له جمهور يأم صالات سينمائية خاصة بالفيلم التسجيلي وإن كانت في بدايتها محدودة المشاهدين. ومع تطور القنوات التلفزيونية تضاءلت صالات سينما الفيلم التسجيلي الوثائقي واستوعبته قنوات تلفزيونية من منطلق احترام المشاهد الذي توسعت آفاقه بين مشاهدي السينما وحتى أصبح هناك جمهور مدمن على متابعة قنوات خاصة بالفيلم التسجيلي .. قنوات تحترم ذائقة المشاهد وتحرص على حرفية المهنة وتحرص أيضا بالقيم الجمالية والفنية. ومن هذه القنوات قناة «ناشيونال جيوغرافيك» وعربيا قناة الجزيرة الوثائقية. كما وأن ثمة قنوات تولي الفيلم الوثائقي أهمية كبرى ولكن أي نوع من الأفلام، ووفق كم من القدرة الإنتاجية تضعها القناة تحت منفذي مسلسلات وثائقية كما حصل ذلك مع مسلسل «كوكب الأرض» الذي أنتجته قناة البي بي سي البريطانية ووضعت تحت تصرف فريق العمل سبعة ملايين جنية إسترليني أي ما يقارب العشرة ملايين دولار. إن من يشاهد المسلسل الوثائقي «كوكب الأرض» يظن أن السينما لا يمكن أن تتجاوز هذا المسلسل، مثلما كنت أعتقد حين شاهدت فيلما وثائقيا طويلا على مدى ساعتين في رحلة للكواكب سجلتها سفن الفضاء بكاميرات في منتهى الدقة والتقنية، وسفن الفضاء تجتاز الظلمات المضاءة وتتجول بين نجوم السماء في حركة السفينة الفضائية، ثم تعاملوا مع المواد المصورة بقيمة صوتية وموسيقية تفاعلت مع قيمة الصورة فخرجت للعالم بسيمفونية سينمائية يظل المشاهد بعد مشاهدته الفيلم يعيش بشبه حلم أبدي .. كنت أظن أنني لن اشاهد فيلما أكثر متعة من هذا الذي شاهدته في معرض البث الفضائي في هولندا، لكنني وبعد فترة فوجئت بمسلسل «كوكب الأرض» وإذا بي أمام عبقرية جديدة تتمثل في قدرة مصورين يمكن أن نطلق عليهم صفة المعجزة في جمال الكادر وعظمة الصبر في ملاحقمكونات الأرض التي تفرزها الطبيعة في المغارات والكهوف والجبال وفي البحار وفي المناطق القطبية وسط الثلوج. وحين تعرف أن تحقيق هكذا مسلسل وثائقي يستغرق تصويره فقط قرابة سبع سنوات، تدرك معنى المصور الذي هو مخرج الفيلم إذ ما يستطيع أن يكون أي مخرج ويقف إلى جانب مصور يلتقط سحر الطبيعة وخفاياها على كوكبنا الذي نعيش فيه. لقد رحل المصورون ومهندسو الصوت والمخرجون ومدراء الإنتاج في رحلة أرضية لكشف خفايا الواقع. لا مملثون ولا ممثلات .. لا نجوم سينما ولا كومبارس .. سافروا يراقبون المغارات في المكسيك وخفاياها المدهشة ثم رحلوا نحو القطب الشمالي وعايشوا الدببة وولاداتها واختفائها في مغارات الثلوج وذهبوا نحو السواحل الباردة حين يبرد البطريق ومتى يشعر بالدفء وكيف في تلاحم أجساد الآلاف منه على السواحل .. ترى أين يكمن المصورون قرب الأفاعي في المغارات وأين يكمن المصورون ومهندسو الأصوات في القطب الشمالي وماذا يلبسون وكيف يؤمنون كاميراتهم لتبقى تعمل وتسجل الصور واللقطات الخرافية الجمال. سؤال محير وبشكل خاص لنا نحن – ذوي الحرفة السينمائية – الذين ندرك بعد حين من الزمان أننا في نضالنا لتحقيق فيلم سينمائي واحد نكافح مثل دون كيشوت وهو يحارب طواحين الهواء. نحن صراحة لا نعرف أين نعيش .. نحن نعيش فقط في بيوت محمية من الريح والبرد والعواصف ونملك وسائل التبريد والتدفئة، ووسائل الطبخ وأسرة النوم .. وسيارة في «حوش» كل واحد منا، ولكن حين تعرف خفايا كوكبنا الذي نعيش فيه من خلال الأفلام الوثائقية التي يحققها وينجزها مصورون قد يفقدون حياتهم من أجل لقطة واحدة قد تطول ثوان لأنه بحاجة إلى تلك اللقطة مهما بلغت رحلة الخطورة لتحقيقها سوف تشعر أن المبدع كم يحترم المتلقي من أجل أن يقدم له المعرفة والجمال. وفي إحدى قنوات الآرتي الأوربية قدمت القناة رحلة قطار من أوربا إلى سويسرا. لقد راقبت الفيلم الوثائق بدقة وكنت أندهش من كثرة الكاميرات وكثرة المصورين الذين كانوا يرافقون رحلة القطار سواء المصورون مع سائق القطار أو الذين صعدوا فوق القطار أو الذين يستقبلون القطار حين يمر بين الثلوج والغابات ومصورو المحطات التي يتوقف فيها والناس الذين ينزلون أو يصعدون نحو القطار .. وكل المشاهد مصورة بتقنيات حرفية عالية .. حين انتهى الفيلم غفوت سعيداً وكأنني كنت مسافراً داخل القطار أشعر بالدفء والطمأنينة حين كان الثلج ينث مثل نتف قطنية تتطاير حول القطار الرماني اللون وسط الثلوج البيضاء.