لم يستطع ترمب إطفاء حريق "روسيا غيت" مما يبشر بسياسات خارجية متسرعة ومتهورة على نمط بوش الابن في العراق لاحتواء آثار هذه الفضيحة ودّع الرئيس باراك أوباما الأميركيّين يوم الثلاثاء الماضي من ولاية شيكاغو، حيث كانت انطلاقته السياسية قبل 25 عاماً، وبحضور الآلاف من مؤيديه، وقد دعا في كلمته الأميركيين إلى الدفاع عن نظامهم الديمقراطي المهدد والحفاظ على التنوع، وذلك قبل أيام من عملية تسلّم الرئيس الجديد دونالد ترمب مهامه خلال حفل التنصيب الذي سيقام في 20 يناير في واشنطن. تترافق عملية تنصيب الرئيس ترمب مع هواجس عاشها الأميركيون في ظروف سابقة العام 1974 إبان انتخاب الرئيس نيكسون لولاية ثانية، وبدء الحديث عن عملية التنصّت على مقرّ الحزب الديمقراطي المنافس في الانتخابات من قبل فريق الرئيس الجمهوري نيكسون، وما عرف حينها بفضيحة "ووترغيت" التي أدّت في نهايتها إلى تنحّي نيكسون، وهو من أقوى الرؤساء في تاريخ أميركا، وتسليم الرئاسة إلى نائبه جيرالد فورد. وقد اعتبرت فضيحة "ووترغيت" بمثابة تهديد للنظام الديمقراطي والحياة السياسية الأميركية. قبيل تولّي الرئيس ترمب بأيام قليلة نشرت "نيويورك تايمز" الأميركية تحليلا موجزا عن تقرير مخابراتي تحت عنوان "خلفية تقييم الأنشطة والنوايا الروسية في الانتخابات الأميركية الأخيرة"، والذي يتحدّث عن تورّط المخابرات الروسيّة في العمل لمصلحة المرشّح الجمهوري دونالد ترمب. ويضم التقرير تقييماً تحليلياً تم تنسيقه بين كل من الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الاتحادي ووكالة الأمن القومي. اللافت في هذا الموضوع هو أنّ أعضاء من الحزب الجمهوري معارضين لترمب هم من موّل إحدى شركات الاستقصاء البريطانية لمتابعة هذه الفضيحة، وهم من وضع هذا التقرير في متناول الأجهزة الأمنية الأميركية التي بدأت بإجراء تحقيق حول هذا الموضوع، وأطلعت الأجهزة الرئيس أوباما على مضمون التقرير، وكذلك قدّمت ملخّصا عنه للرئيس المنتخب ترمب. سيبدأ الرئيس الأميركي الجديد عهده تحت وطأة ضغط كبير من خلال التهديد بإبطال رئاسته، وربّما رئاسة نائبه إذا تمّ التّأكد من صحّة هذه المعلومات، ممّا يضع المجتمع الأميركي أمام صورة هزيلة للدولة الأميركية العظمى، إذ أصبحت المخابرات الروسيّة قادرة على التّحكّم بالنظام الديمقراطي الأميركي التي يعتبره الأميركيّون إنجازهم التاريخي والمثالي الذي دعا الرئيس أوباما الأميركيين إلى الدفاع عنه. وقد نشهد نزاعاً إعلامياً وسياسياً عميقاً في كلّ الولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً أنّ المرشّحة الديمقراطية هيلاري كلينتون حصلت على أغلبية شعبية على مستوى عدد الأصوات، وليس على مستوى المندوبين حسب النظام الأميركي. الأجهزة الأمنية الأميركية السيادية وضعت يدها على هذا التقرير الذي نفاه الرئيس المنتخب واعتبره مناورة سياسية. مما قد يعني أنّ النظام الديمقراطي الأميركي قد أصيب في الصميم، وأنّ أميركا الآن هي في وضعية الرجل المريض ومعها الأنظمة الديمقراطية المشابهة والمهددة بالقرصنة الروسية. بعد الحرب العالمية الثانية وانتصار أميركا والحلفاء؛ بدأ العالم بالتعامل ما عرف بالمسألة الأميركية الأولى، أي الرجل القوي، وذلك بسبب الدمار الذي لحق بأوروبا مجتمعة بما فيها الدول المنتصرة كروسيا وبريطانيا، لأنّ الحرب كانت قد حصلت على أرضهم وناسهم، وويلات الحرب العالمية الثانية أصابت الأوروبيين، "الشرقيين" و"الغربيّين"، وأصبحت أميركا القوة الأولى في العالم بما يشبه ما عرف قديماً بالمسألة الشرقية الأولى أو الرجل القويّ، وذلك بعد ظهور الإمبراطورية العثمانية التي هدّدت أوروبا ووصلت إلى حدود النمسا، فاجتمع العالم لمواجهة الرجل القوي. ثم قامت المسألة الشرقية الثانية، أوالرجل المريض، في آخر أيام السلطنة العثمانية حين اجتمع العالم مرّة أخرى لاقتسام نفوذ الرجل المريض. إنّ أميركا في العقد الأخير تشبه الإمبراطورية العثمانية أمام المسألة الشرقية الثانية، أي المسألة الأميركية الثانية، وانهيار الرجل القوي، وظهور تعدّد الأقطاب مجدّداً، وانسحاب أميركا إلى داخل حدودها، وعدم قدرتها على إنهاء النزاعات التي بدأتها في أفغانستان والعراق، بالإضافة إلى الحرائق التي اشتعلت في أكثر من مكان، وتطوّر الحضور الروسي والصيني والأوروبي على حساب الحضور الأميركي، ممّا يضع ولاية الرئيس الأميركي الجديد والمطعون في انتخابه في وضعية لا يُحسَد عليها. هذه الأجواء فرضت على الرئيس المنتخب عقد مؤتمر صحفي هاجم خلاله إدارة أوباما واعتبرها المتسبب بظهور "داعش"، ولم يستطع إطفاء حريق "روسيا غيت" مما يبشر بسياسات خارجية متسرعة ومتهورة على نمط بوش الابن في العراق لاحتواء آثار هذه الفضيحة، ولا أحد يستطيع تحديد مسارات الواقع الأميركي في الأسابيع القادمة وكيف ستتطوّر تداعيات التقرير المخابراتي، أو "روسيا غيت" وكلّ الاحتمالات ممكنة، ولا نستطيع ترجيح احتمال على آخر، إلاّ أنه من المؤكد أنّ أميركا مع ترمب في وضعية الرجل المريض أمام فضيحة "روسيا غيت".