×
محافظة المنطقة الشرقية

برج خليفة…أطول برج في العالم

صورة الخبر

منذ سنوات سبع، ومنذ أن كانت بدايتي مع القلم وحرفه، وأنا أحلم بذلك الكتاب الذي سيحمل اسمي على غلافه وتتداوله أيدي الناس بالإطراء والإعجاب.. كانت رغبات ساذجةً بعض الشيء، ولكن لا بأس، فها أنا أكبر قليلاً ويتطور معي الأمر حتى يزيد على غرضي من الأمر غرض آخر يتبدل معه كل شيء، فأبدأ من جديد، فأريد أن أكون صاحب رسالة تؤتي أكلها في عقل كل قارئ وقلبه، لا مجرد كاتب ينال الاستحسان على لغته أو أسلوبه، فأجمع بين كل ما حلمت به يوماً أن يكون في قلم شاعر وأديب، فأكتب بالبيان ولغته.. والعاطفة وسموها.. والفضيلة ورسالتها. وحين هذا يظهر أمام النفس قدرها وما تملكه من مفاتيح، فيصغر في عينيك كل إطراء ومدح، وتلوح لك في الأفق عِظَم أمانتك وإشفاق السماوات والأرض والجبال منها.. وكذا حدث معي! فظهر لي إشفاقي معهن من حملها لحين طويل، ثم عزمت عليها فأثقلتني؛ حتى صار حلمي أمامي جبلاً لا يعبره كل مترجل ولا يصعده كل صاعد، فصار الكُتاب الذي أحلم به وكأنه كتابي الذي سيعرض عليَّ يوم الجمع العظيم، فبلغ منّي الحذر مبلغه، وصارت له في نفسي رهبة وهيبة ما زلت أحملها للحظتي تلك، فالأمانة كبيرة، والغاية تستحق كل الإعداد. لكن.. لماذا كل هذا؟ أو بالأحرى: مَن ذا الذي سيهتم بما أكتبه الآن؟! وأقول إن المقام هنا ليس للكتابة عن ذاتي التي لا تهم العموم، أو عن تجربتي التي لم تكتمل بعد، ولكنه عن ذلك الحلم، وعن تلك الأمانة التي لا أظنني أستأثر بهما عن الخلق، عن ذلك الإرث الذي لا يجد من يسعى إلى تركته إلا قليلاً، وعن هذه الثروة التي تركت بغير طالب كي تدفن رويداً رويداً عن أنظار العالمين، عن هذه اللغة التي لم يعدل جلال صياغتها في مقام غير ما تصوغه هي أيضاً في مقام آخر، وعن حلمي الشخصي للرواية والديوان اللذين ينبني بهما في عقل المرء ووجدانه شيء، فلا ركاكة، ولا إسفاف، ولا سطحية يحسنها كل ذي خط على ورق. المقام هنا للحديث عن هذا الغثاء المنتشر الذي أزرى بصورة الأديب والشاعر في أعين الناس، ودفن عنهم هيبة السابقين العظام.. عن كل ذي حرف تهافتت عليه أذواق الفارغين فكانت فتنةً لصاحبه يطل بها علينا بكتاب لا تقرأ فيه كلمةً واحدة تضيف إلى عقلك شيئاً، أو تسمو بروحك قدر ذراع، بل إنك تخشى على نفسك وانحطاط ذوقها من ذلك الدجل وهذا القدر الوافر من الهراء. أقول وأسأل، ورب حامل فقه إلى مَن هو أفقه منه، لماذا نحن نكتب من الأساس؟ ما الذي قد يخيف المرء من إصدار أطروحته الأدبية على الناس ويحبس عن نفسه أطماع الشهرة وشهوتها والجميع اليوم يصدرون كتبهم حتى ضجت بهم الأرفف والعقول؟! هل نكتب للناس ليعرفونا؟ أم نكتب لأنفسنا لنعرفها؟ هل نبحث عن دخل إضافي يمنع عنا شظف العيش؟ أم نبحث عن أرواحنا بين سطور ورقة بيضاء؟ هل هي الشهرة للشهرة؟ أم الشهرة لإرساء الأثر؟ ثم هل.. وهل.. وهل؟! والحقيقة عندي أننا نكتب لنرتاح من الدنيا في عالم خيالنا ووحيه لوقت من الزمان، ثم نخرج على الناس بوحينا نفرد أمام أعينهم نفوسهم التي لا يعرفونها.. نكتب لأن لنا رئةً ثالثةً في أقلامنا نتنفس بها مهما اختلفت درجاتنا في البيان.. نكتب لنقرأ أنفسنا قبل أن يقرأ ما نسطره الناس. الناس! هل سأل أحدنا نفسه قبل أن يصدر إليهم ما أنتجه: أأنا أهل لذلك حقاً أم أن للأمر وقتاً يطول؟ هل أنا بقامة هؤلاء الكبار حتى يوضع اسمي جوار أسمائهم فوق رف واحد في مكان ما؟! ثم ما أن تصل بك نفسك إلى هنا حتى تدهش: أي جرأة تلك التي دبَّت في قلب إنسان ليقول على نفسه أديباً أو شاعراً وهو يعلم أنه سيناطح رؤوس الجبال الشامخات؟ فتتأخر حتى حين، ولكنه تأخر المتقنين، المعدين بالمثابرة الصابرة حتى يحين الميعاد، فتعلم وقتها أنك ما تأخرت عن ولوج اليمّ إلا لبصيرة في نفسك تعلم قدر الأمواج، وتريث يرجئك لوقت القدرة على مدافعتها، فلا يجرفنك تيارها وتهلك في غياهب التاريخ، فتنسى كأنك لم تكن، على قول درويش، رحمه الله. أقول هذا وأنا أحمل أمانتي فوق ظهري كل يوم، ناظراً حال حلمي الذي أجل قدره، وناظراً لغتي وهي تنتهك على صفحات بين دفتين سميت تجاوزاً بكتاب.. وأتساءل بعينين تملؤهما الحسرة وقد رأتا أفئدةً من الخلق تهوي إلى هذا الغثاء: إن كان هذا هو الحال، وكانت هذه هي الثقافة المرساة، فلماذا نكتب إذاً؟ ولكني سرعان ما أتجاوز هزيمتي وأكتب من جديد.. لنفسي.. لذلك الحلم بداخلي الذي لا يموت؛ لهذا الغد الذي أرى فيه آلافاً يحملون الكتاب وهم يعلمون معنى أن يحملوه، لتلك الفضيلة التي أخذت على عاتقي نشرها -ما استطعت- بأدب ونظم وحسن بيان، ولهذا الماضي الذي ترك لنا من أثره لغةً لا ظهير لها وكنزاً من المعاني لا يهان. سأكتب لكي أجد ذاتي التي حظيت بها، ولكي أحيا من بين موات السفاهة بلسان عربي مبين. أكتب لكل هذا وذاك.. وسأكتب لأني أحب نفسي حين ذاك. سأكتب حتى أرى حلمي بين عيني: واقعاً حياً، ولا أتعجل من الأمر شيئاً إلا الإتقان. هذا عهد عليَّ منّي، وعلى كل ذي حلم وعزم لا ينبغي له اللين، فإن اللغة كنز وسبيل، والأمانة ذات شأن جليل، وقد قضى الله أنه سيحملها من هيَّأ لها فلا يضرها من تخاذل عنها. ولكن يخسرها -فيمن خسرها- التاركون. والسلام. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.