الشارقة: جمال القصاص أثارت ثلاثة معارض افتتحت على هامش فعاليات لقاء مارس السنوي السابع الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون انتباه الحضور، وشكلت نقطه إنقاذ لما شاب أبحاث وندوات اللقاء من بعض الثرثرة والترهل والتكرار، تحت دعوى البحث عن مساحات وسياقات جديدة تربط الفن بواقع الحياة والمجتمع. ورغم أهمية هذه الدعوى فإن الأبحاث والنقاشات والأفكار التي دارت حولها اتسمت بقدر من «الشكلية»، وأفرزت قضايا وموضوعات قديمة، تجاوزتها آفاق الفن سواء في مسيرته الراهنة أو المعاصرة، مثل قضية الأصالة والمعاصرة، أو التعامل مع المكان في الفن كمجرد وعاء خارجي لاحتواء الأعمال الفنية وحفظها، سواء في غاليريهات أو في متاحف خاصة، بينما لم تلتفت الأبحاث التي ناقشت هذه القضية إلى المكان بوصفه لغة وحالة تنبع من داخل العمل الفني نفسه، ومن انفعالات الفنان، وكيفية معايشته للمكان، وطبيعة تجسيده في أعماله الفنية. كما تناثرت في بعض الأبحاث هموم العمارة والجغرافيا، وأصبحت تعد ابتكارا فنيا، تستوي فيه الكتلة المعمارية بنسقها الهندسي المنضبط إنشائيا بالكتلة الفنية، وهي العصب الأساسي في عملية تكوين الشكل الفني وإنضاجه في اللوحة التشكيلية والتي قد يصبح انحرافها واهتزازها محور الإيقاع والتوازن للعمل الفني، الأمر الذي باعد بين أسئلة الفن الحقيقية وبين ما تم طرحه في أبحاث ونقاشات اللقاء الذي يعد بمثابة محطة انطلاق إلى فضاء بينالي الشارقة (12) المقبل في عام 2015، وأيضا محطة مراجعة لدورة البينالي السابقة في العام الماضي. تبقى المعارض الثلاثة هي الأبرز من حزمة معارض أخرى تم افتتاحها على هامش اللقاء، وقد أثارت حالة من الجدل والنقاش الحي بين جمهور اللقاء، وهي تنتمي للأعمال المركبة التي تعتمد على المزج بين شرائح فنية متعددة والتجهيز في الفراغ.. فعلى وتر الحنين للوطن والماضي والبحث عن زمن آخر هارب من غبار الأزمنة وتبدلات الحياة، لعبت الفنانة الألمانية من أصل مصري سوزان حفونة في عمل ضخم احتل بناية بكاملها في منطقة التراث بالشارقة. وتحت عنوان «مكان آخر» جمعت بين مقومات الرسم والتصوير والأفلام وفنون الأداء، في محاولة لإيجاد المعادل البصري الملائم لحياتها الشخصية المتعددة الطرق والطبقات. ومن قاعة إلى أخرى نجح العمل - إلى حد كبير - في أن يأخذنا في تجوال شيق أشبه برحلة استكشافية، نتعرف من خلالها على بنى وسياقات وهياكل وصور، تتنوع في إيقاعها لهفة الحنين إلى مكان آخر، يتراءى أحيانا في صور قديمة لبشر، كانوا قريبين في لحظة ما لروح الفنانة، وروح المكان نفسه، الذي أصبح بمثابة حلم مفقود. ولا تركز الفنانة في عملها على العلامة، كدلالة انتقائية أو عابرة، وإنما تركز على البنية باعتبارها جماع لحظات وملامح أمكنة وبشر وذكريات. وتسعى إلى إنضاج البنية بوسائط تعبيرية متنوعة، حيث تستخدم في رسوماتها الأحبار والقلم الرصاص، على طبقات متعددة من الورق الشفاف، لعمل تكوينات وأنماط تجريدية تبدو كشواهد على تحولات الحالة الفنية، وفي الوقت نفسه تشدها إلى شواهد أخرى متخفية في ما وراء التكوينات والأشكال. تتنوع هذه الأنماط والوسائط ما بين إيقاع «المشربية» والبنية المتشابكة المصنوعة من أقفاص جريد النخيل، والمعروضة في ساحة بيت «السركال»، وكأنها تريد أن تصنع من ثقوب هذه الأقفاص مساقط لتقاطعات الهوية الشخصية بتحولاتها السياسية ومردوداتها الاجتماعية في المكان. وكعادته في أعماله المركبة، يعتمد الفنان المصري الشاب وائل شوق على أطياف متعددة من الوسائط الفنية، مركزا على استكناه قضايا التاريخ والدين والثقافة وتأثيرات العولمة على المشهد الراهن في مجتمعاتنا المعاصرة، متخذا من مفارقات الخرافة والأسطورة مقوما أساسيا لربط الماضي بالحاضر بالمستقبل. ويحاول للوصول لهذا من خلال الصور الفوتوغرافية والتجهيزات وأعمال الفيديو، والعروض الأدائية التي تعتمد على أنماط من الغناء التراثي في بيئة معينة (الباكستانية)، لتكوين فضاء بصري له نكهة صوفية، مفتوح على البدايات والنهايات معا. ينبش شوقي في عمله «الفرسان يعشقون الطيور وحكايات أخرى» في ظلال حكاية سردية حول قرية مصرية في أقصى الجنوب اسمها «العرابة المدفونة» لا يزال أهلها يعيشون على التنقيب عن الآثار الفرعونية، في محاولة لإيجاد رابط بين فضاء السرد بعبله الميتافيزيقي، وفانتازيا الواقع الموار بالتناقضات على شتى الأصعدة السياسية والاجتماعية. ترافق هذا العمل مجموعة من الرسوم الكروكية الخطية بالقلم الرصاص والحبر، تعطي إحساسا بمقدرة الفنان ورهافة موهبته في تنويع طبقات الصورة والبنية الأساسية للعمل، وكذلك حيوية التدفق والانتقال بين الحرفية اليدوية، وحركة الصورة المنداحة في مشاهد الأفلام، التي تجمع الغناء الصوفي بمشاهد حية من عالم السوبر ماركت، كرمز على ما آلت إليه الحياة في واقعنا الراهن. وفي العمل الثالث «قبل وبعد التقليلية» للباكستاني رشيد آرانين، وهو مولود في بريطانيا، يوثق الفنان من خلال منحوتات ورسومات أبدعها على مدار 50 عاما لرحلته مع الفن والحياة، وأيضا تطوره كفنان انطباعي عاش في كراتشي، ثم تحوله إلى النزعة «التقليلية» في لندن، والاعتراف بإنجازاته كنحات. و«التقليلية» نزعة فنية انتشرت في ستينات القرن الماضي كرد على الاتجاهات الفوضوية والعبثية في الفن التي تعتم على الانفعال المنفلت، ويسعى فنانوها إلى «التقليل» من فوضى العناصر الفنية، والاعتماد على العناصر الأساسية في الرسم والنحت، وكانت نماذجهم الفنية أشبه بالأقفاص والأشكال الهيكلية المتشابكة بواسطة دوائر أو حلقات تتعد خاماتها، وهو ما بدا جليا في أعمال رشيد، فالعمل المعروض بكل مكوناته سواء الرسومات أو المنحوتات أو العناصر المجمعة يتصل بعضه ببعض عن طريق الفكرة التي تتخلق من توترات الحالة الفنية نفسيا وبصريا، وليس من خلال نموذج معين، حيث الشكل يتغير من مشهد لآخر، لكن مع ذلك تظل الفكرة محتفظة ببنيتها النحتية والتصويرية.