في الحروب عادة ما تركّز وسائل الإعلام على الضحايا والدمار وتهتمّ الشعوب بسير العمليّات العسكرية والأمنية. وينسى الجميع البُعد الجيوسياسي وكذلك الخلفيّات الاقتصادية والمالية للجهات المتورّطة ولمن يقف وراءها، وهذا ما ينطبق تماماً على المشهد الحالي في سوريا، حيث تتجاوز الأحداث مسألة إسقاط دكتاتور من هنا أو مسألة قمع مسلّحين متمرّدين من هناك، وهي ترتبط مباشرة بمصالح حيويّة فائقة الأهمية للدول الإقليمية الأساسية وللدول العظمى أيضاً كيف ذلك؟ في بداية مظاهرات الثورة السورية تم إطلاق فكرة الخط الإسلامي الإيراني لنقل الغاز من حقل بارس في الخليح العربي إلى سوريا مرورا بالعراق تمهيدا لربطه بأوروبا مستقبلا، وتم توقيع الاتفاق في 25 يوليو 2011 . الصراع الأمريكي الروسي خارج سوريا: لكي نفهم حقيقة الصراع الروسي الأمريكي داخل سوريا ينبغي أن نفهم طبيعة الصراع بينهم في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وحتى أفريقيا، لكي نستطيع الربط في ما بين نقاط الصراع، روسيا تدرك أن سقوط الاتحاد السوفيتي كان بسبب التدهور في النواحي الاقتصادية، وأنه يجب الاهتمام ببناء قوة اقتصادية كبيرة مستغلا كون روسيا تملك أعلى احتياطي من الغاز في العالم، وبدأت بإمداد أوروبا بالغاز عبر شبكة أنابيب تمر عبر أوكرانيا وبيلاروسيا، ولكن خلاف حصل خلاف. ظاهره تجاري في 2004 بين روسيا وأوكرانيا حول سعر الغاز أدى إلى تخفيض ضخ روسيا الغاز حوالي 48 ساعة، طبعا في ظل حكومة أوكرانيا الموالية لأمريكا. تلقت أوروبا وأمريكا الإنذار وبدأت في التفكير بحلول لتوفير الغاز الطبيعي لأوروبا إلى أوروبا من آسيا الوسطى دون المرور بروسيا لتجنب تكرار هذا الموقف واستغلال روسيا الغاز كسلاح اقتصاي ضد أوروبا، وتمثل هذا في اتفاق خط أنابيب نابوكو الذي تمخض الاتفاق عليه في 2009، كما تم الاتفاق علي خط تاناب الذي ينقل الغاز من بحر قزوين عند أذربيجان إلى اليونان عبر تركيا المزمع تشغيله في 2018. الرد الروسي: ردت روسيا على محاولات الالتفاف على حصتها في ضخ ربع الغاز إلى أوروبا عن طريق استراتيجية جديدة: 1- شراء معظم الغاز المستخرج من بحر قزوين من الدول المنتجة وإعادة ضخه عبر أنابيبها. 2- التعاقد على إنشاء السيل الشمالي الذي يمر من بحر البلطيق إلى شمال ألمانيا ومن ثم توزيعه على الدنمارك وبريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا والنمسا والتشيك وبولندا افتتح في 2011. 3- التعاقد على السيل الجنوبي الذي يمر بالبحر الأسود قريبا من القرم إلى بلغاريا ورومانيا والمجر والبلقان، وتوقف المشروع عقب الأزمة الأوكرانية 2014. - بعد فشله بسبب أزمة أوكرانيا تم التعاقد على السيل التركي لنقل الغاز إلى تركيا ثم اليونان ومنها إلى أوروبا. 4- التعاقد على السيل الأفريقي الذي يمر من شمال نيجيريا إلى النيجر إلى ليبيا أو الجزائر، ومن ثم إلى إيطاليا، وتم شراء نصف حصة شركة آيني الإيطالية بعد موافقة بيرلسكوني. الرد الأمريكي: 1- تم إشعال الاحتجاجات في أوكرانيا (يمر منها معظم الغاز الروسي لأوروبا) ضد الرئيس يانكوفيتش الموالي لروسيا وتم إسقاطة وتولي حكومة موالية لأمريكا. 2- التقارب مع إيران والموافقة على ضخ إيران للغاز، والاندماج عبر خط تاناب لنقل الغاز من عبر تركيا إلى أوروبا. 3- محاولة إنشاء دولة كردية في شمال سوريا إلى الساحل لتطويق تركيا من الجنوب والتهديد بإقامة دولة كردية تمهيدا لانفصال جنوب شرق تركيا بعد التقارب التركي الروسي في أوائل 2014. 4- عرقلة السيل الأفريقي عبر المساعدة في إزالة نظم القذافي ودخول فرنسا مكان إيطاليا في ليبيا وسط امتعاض روسي، ولاحقا تم إزاحة بيرلسكوني من الحكم 2013 ومحاكمته. 5- تم الضغط على بلغاريا لمنع السيل الجنوبي لأنه يتعارض مع قانون حزمة الطاقة الثالثة للاتحاد الأوروبي، حيث يمنع الدول المصدرة من امتلاك خط الغاز، واعتبرته روسيا عقوبة من أوروبا بعد ضم القرم فيما أصرت إيطاليا على تنفيذ المشروع لأنه يخدم مصالحها الاقتصادية. 6- مؤخرا تم الاتفاق على نقل الغاز دلتا شمال غرب نيجيربا إلى المغرب، مرورا بدور غرب أفريقيا ومن ثم إلى أوروبا ليكون بديلا عن الغاز الروسي. 7- سارعت أمريكا معدلات تطوير استخراج الغاز الصخري حتى أصبحت رقم 1 في العالم في الإنتاج وبدأت في التصدير لكنه ضعيف لأمور لوجستية، مما أدى إلى الانخفاض الحاد في أسعار النفط العالمية من 125 دولار إلى أقل من 40 دولار في 2015 للضغط على الاقتصاد الروسي التي انهارت عملته وفقدت نصف قيمتها سابقا. روسيا مرة أخرى: - بدء الدخول إلى الأراضي السورية لضمان فشل الخط الإسلامي من إيران إلى سوريا وأيضا إفشال خط الغاز القطري الذي يفترض مروره بحلب للوصول إلى الأراضي التركية وضمان الاستحواذ على الغاز المستخرج من الساحل السوري وتوجيهه بعد ذلك إلى أوروبا. - وفي هذه الأثناء وقع الانقلاب العسكري في تركيا وسطر فشله نهاية العلاقات الأمريكية التركية، وهددت تركيا أمريكا إذا لم تسلم فتح الله جولن أنها سترد ردا مناسبا. - قامت تركيا بإنشاء تحالف ثلاثي يضم روسيا وأذربيجان وتركيا وتوقيع عقد السيل التركي في مؤتمر الطاقة الذي عقد في أسطنبول في أكتوبر 2016، وسط سخط أوروبي وأمريكي شديد على تركيا لأن المشروع يصب تجاه هيمنة روسيا على سوق الغاز الأوروبي. - ضغطت روسيا على اليونان في قبول مرور السيل التركي من على أراضيها، ومن المرجع أن يختلط الغاز الإسرائيلي أيضا معها ووافقت الحكومة اليونانية بسبب الأزمة الطاحنة التي تمر بها البلاد. الاتصالات الروسية مع الفصائل السورية: حاولت روسيا إقامة اتصالات مع عدد من فصائل حمص التي تحتوي على ضباط من السنة الذين تخرجوا من الكليات العسكرية الروسية فيما سبق خصوصا بلدة الرستن في ريف حمص الشمالي، وتعهدت بإدخال مساعدات إلى المناطق المحاصرة مقابل تعهدهم بمحاربة تنظيم الدولة فقط وعدم محاربة النظام لكنها فشلت تقريبا. - بدأت روسيا بتكوين معارضة روسية سميت بمعارضة حميميم، وتولت هذه المعارضة التنسيق لإنشاء ألوية في شمال حلب سميت بألوية النصر هدفها محاربة تنظيم داعش والتوقف عن محاربة نظام بشار، وأيضا التوقف عن محاربة القوات الكردية ربما لاستخدامها كورقة مساومة مع تركيا لاحقا وكانت تعمل تحت هدف مشترك هو إفشال المخطط الأمريكي بتقسيم سوريا في المحور الشمالي، ولاقت بعض الاستجابة من أبناء مدن ريف حلب الشمالي مثل مارع. وفي النهاية تم الانتصار المؤقت لروسيا في الملف السوري خصوصا بعد الأنباء عن التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية لصالح ترامب المؤيد للتقارب مع روسيا، وأعلن رسميا فشل سياسة أوباما وكيري. في المقال القادم نوضح كيفية الرد الخليجي على معركة حلب وتحويل الصراع إلى صراع عالمي. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.