×
محافظة المنطقة الشرقية

بلدية أبوظبي ترصد 1109 بائعين جائلين وتخالف 931 وتحجز 51 سيارة

صورة الخبر

من ناحية مبدئية، جعل الكاتب الأميركي هنري جيمس من التصدي للأيديولوجية الأميركية، في «صراعها» المفترض مع جذورها الأوروبية، محور معاركه الفكرية وربما الحياتية أيضاً ولو ضمن حدود في هذا السياق. غير أن هذا الكاتب الغزير وذا التكوين الفلسفي من طريق تربية أبيه له وترعرعه مع أخيه ويليام جيمس المعتبر من أكبر فلاسفة الحداثة الأميركية، خاض في حياته الكتابية معارك أخرى لا تزال أصداؤها ماثلة الى اليوم، منها بخاصة معركة الفن والسياسة في تناحرهما، لا سيما في المجتمع الفيكتوري الإنكليزي أواخر القرن التاسع عشر. وربما تكون روايته «الملهمة المأسوية» خير مثل يمكن إيراده في هذا السياق. > ففي هذه الرواية التي ظهرت أول ما ظهرت مسلسلة خلال صيف عام 1890 في بوسطن ولندن في آن واحد، دنا جيمس من هذا الموضوع في شكل واضح، بحيث قال بعض النقاد أن هذا النص يبدو أشبه ببيان فكري على رغم بنيته الروائية وتجابه شخصياته وأحداثه المتلاحقة سفراً بين البيوت والمدن والقارات حتى. أمّا بالنسبة الى جيمس، فسيقول أن الأساس بالنسبة إليه كان «تشريح إحدى الطبقات العليا في المجتمع الفكتوري الإنكليزي، من خلال نظرة تلك الطبقة الى الفن». وفي هذا السبيل، جعل الكاتب أحداث الرواية تدور من حول الأرملة الثرية الليدي آغنس دورمر، التي تحاول أن تنشئ أبناءها في توجهات سياسية تضمن لهم مكانة في المجتمع، لكن ابنها الأكبر نيك دورمر لا يبدو آبهاً بالسياسة، بل يتطلّع الى أن يكون فناناً. وهو يقع في هذا تحت تأثير رفيقه في أوكسفورد غابريال داش، الذي يشجعه في رغباته الفنية على الضد من الحسناء جوليا، صديقة العائلة والمغرمة به التي تدفعه الى السياسة وصولاً الى الترشّح لمقعد في مجلس العموم. في تلك الأثناء، تكون الليدي آغنس قد اصطحبت العائلة في زيارة الى باريس، حيث يحيط بها عدد من الأقارب والأصدقاء الذين سيكون لكل منهم دوره في السجال الحامي المخاض الآن أكثر وأكثر من حول السياسة والفن. فداش موجود دائماً لا يريد لنيك التخلّي عن الفن. وهو ليس وحده في هذا، إذ هناك أيضاً بيتر، شقيق جوليا والديبلوماسي المولع بالمسرح. وميريام بوث الحسناء العابقة بالطموحات المسرحية تحت دفع من أمها البائسة المولعة بالمسرح أيضاً. وفي مسعاها لأن تصبح ممثلة، تجد ميريام لدى بيتر مساندة قوية لها... فيقدمها هذا الى البروفسورة مدام كاريه التي تأخذها بالفعل تحت جناحها، أمام غضب جوليا التي تريد من الحلقة كلها ألا تقارب الفن، وذلك كي يبقى نيك بعيداً من طموحاته الفنية! > وتحت ربقة هذا التشابك، تعود المجموعة كلها الى لندن حيث يكون قد فاز بالمقعد البرلماني، خاضعاً لمشيئة أمه المتضافرة مع إلحاح جوليا، بل إنه يخطب جوليا في سياق دخوله البرلمان، وبالتحديد بناء على رغبته في إرضاء الأم من دون أن يكون في أعماقه مغرماً بها هو الذي لا ينسى مساهمتها في وأد طموحاته الفنية. وفي البداية، يكرس النائب الشاب وقته للنشاط السياسي، لكنه سرعان ما يسأم ذلك ويعود الى الرسم. وذات يوم فيما كانت خطيبته تزوره، تجده منصرفاً الى رسم ميريام، فتقرر من فورها قطع علاقتها به. أما هو، فيتخلى من فوره عن مقعده البرلماني وقد أحس بأنه قد تحرر. أما بالنسبة الى بيتر، فإنه يصارح ميريام هنا بحبه بعد أن باتت نجمة مسرحية معروفة، لكنها تفضل عليه الزواج من بازيل الذي كان قد صنعها كنجمة. صحيح أن الشجن يصيب بيتر لكنه يعزي نفسه بالعودة الى حبّ أول لبيدي شقيقة نيك التي كانت تخفي هياماً به منذ البداية، فيتزوجها ويأخذها الى أميركا، فيما تتخلى جوليا في المشهد الأخير عن التطلعات السياسية وتعود الى نيك طالبة منه أن يرسمها. > ربما لم يعرف الأدب الغربي كاتباً ثأر للعالم القديم (أوروبا) من العالم الجديد (أميركا) بقدر ما فعل هنري جيمس، الذي كرّس العديد من رواياته وكتاباته النقدية الأخرى للمقارنة بين حضارة أوروبا ووعود أميركا. وبالنسبة إليه، كانت المقارنة تنتهي، في نهاية الأمر، لمصلحة العالم القديم. ومع هذا، كان هنري جيمس أميركي المنبت ولد، تحديداً، في نيويورك خلال الزمن الصاخب الذي عاشته تلك المدينة في 1843، لأبيه الكاتب والباحث اللاهوتي، عاش حياته يحن الى أوروبا. والحال أن ثروة الجد هي التي مكنت الأب، ثم ابنيه الشقيقين هنري وويليام جيمس (الفيلسوف الاشتراكي المعروف)، من أن يعيشوا على سجيتهم، من دون أن يشعر أي منهم بأي امتنان للقارة الأميركية. والحال أن هنري جيمس أوصل الأمور الى منطقها الطبيعي، ليس في كتاباته وحدها، بل في حياته أيضاً، إذ رأيناه ينزح في 1875 ليعيش في إنكلترا، بعد أن كان تلقى دروسه الجامعية في نيويورك ولكن أيضاً في لندن وباريس وجنيف. > بكل صراحة، لم يحب هنري جيمس، ومنذ مراهقته، لا أميركا ولا الأميركيين، واعتبر نفسه دائماً مديناً للآداب الأوروبية: جورج إليوت التي كان يحب كتاباتها كثيراً، وتشارلز ديكنز الذي أحبه ناقداً بقدر ما أحبه روائياً، ثم بخاصة أونوريه دي بلزاك الذي اعتبره سيد الأدب الروائي من دون منازع. > بدأ هنري جيمس ينشر رواياته وقصصه القصيرة منذ عام 1865، وكان لا يزال في الثانية والعشرين من عمره، فنشر أولاً قصصاً قصيرة، ثم فصول رواية مسلسلة في مجلة شهرية، وهو ما أتاح له بعض شهرة مكّنته من أن ينشر كتباً بانتظام بعد ذلك. > خلال السنوات العشرين التي أمضاها هنري جيمس في لندن، اهتم في كتاباته خصوصاً بدراسة تأثير الحضارة الأوروبية في الحياة الأميركية. وهذا الاهتمام يتجلى بخاصة في روايته «رودريك هادسون» (1875) وفي رواية «الأميركي» (1877) ثم في «ديزي ميلر» (1879) و»صورة سيدة» (1881). غير أنه بعد ذلك، أي بعد أن شعر بأنه صفّى حسابه، أو كاد، مع الحياة الأميركية و»خوائها»، راح يدق ناقوس الخطر ضد السطحية التي تهدد بها المزاجية الأميركية أوروبا إن هي غزتها سياحياً أو ثقافياً. وبعد ذلك انصرف جيس للاهتمام بالحياة الإنكليزية نفسها، فكرس لها روايات مثل «الملهمة المأسوية» (1890) وغيرها من القصص التي حلل فيها الشخصية الإنكليزية كما رأينا أوّل هذا الكلام. > عندما أطلّ عليه القرن العشرون، كان هنري جيمس قد أضحى واحداً من كبار الكتاب المعروفين على نطاق عالمي، وكان هو لا يكف عن الكتابة ونشر كتاباته، حتى لو أن بعض تجاربه المسرحية الفاشلة كان من شأنها أن تورده موارد اليأس، هو الذي كان يعول كثيراً على نجاح مسرحي يريحه من عناء الكتابة الروائية. صحيح أن بعض النقاد، ومنهم جورج برنارد شو، أُعجبوا ببعض مسرحياته، غير أن هذا الإعجاب لم يكفل لها ما يكفي من نجاح. ومع هذا، لم ييأس هنري جيمس أبداً. فالظاهر أن الثراء الذي كان يتمتع به كان يشكل له خير حصن يقيه مغبة اليأس. هكذا راح يواصل ويواصل الكتابة وينشر كتابات نقدية، روايات، قصصاً قصيرة، رسائل، الى مقدمات جمعت في ما بعد لتشكّل كتابه الأشهر «فن الرواية». > كان هنري جيمس، بهذا، واحداً من الكتاب القلائل الذين عرفوا كيف يوقفون حياتهم على الأدب وعلى الكتابة، ومع هذا، ومنذ السنوات الأولى لقرننا العشرين، نجده يوسّع مجال اهتمامه لينعي على العالم ركضه نحو الحروب، ولينذر بقيام حرب عالمية، تلك الحرب التي إذ وقعت بالفعل، أشعرته بيأس شديد وغمّ انعكس في انصرافه عن إنجاز روايتين أخيرتين كان يستعد لنشرهما ولم يفعل. ولم يسعده في ذلك الحين نيله الجنسية البريطانية التي حررته نهائياً، في عام 1915، من أميركيّة كانت لا تزال تشكل هاجساً لديه. بيد أن جيمس الذي باغتته الحرب الأولى وهو في قمة مجده، توفي في عامها الثالث أي في عام 1916 يائساً قانطاً ليس لديه سوى عزاء واحد: عودته أوروبياً، هو الذي أصرّ طوال حياته على أن يكون أوروبياً في عودة الى الجذور ذات دلالة.