كل شيء في "مولانا" مختلف ورائع، بدايةً من الإعلان الدعائي الذي يَعِدُكَ بفيلمٍ جيدٍ وأحداثٍ مثيرةٍ دون أن يحرق للمشاهدِ أيَّ سياقٍ درامي، ومُروراً بالحماس الذي يشعر به المشاهد بمجرد النظر إلى جودة الصورة وسماع الموسيقى التصويرية للفيلم، ذلك المستوى من الجودة يجعل المشاهد ينغمس في أحداث الفيلم دون أن يشعر، وانتهاءً بالأداء الاستثنائي لعمرو سعد الذي أتقن الدور بشكلٍ كبيرٍ. وقد بدأ الفيلم المُقتبسُ عن رواية الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى، ومن إنتاج رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس، وإخراج مجدي أحمد علي- أول عرض له في دُور العرض المصرية أمس 4 يناير/كانون الثاني. كما حضر، أمس الأول العديد من نجوم الفن وشخصيات سياسية بارزة، جاء على رأسهم الفنان عادل إمام، وعمرو موسى الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية. وقد حضرت مراسلة موقع هافينغتون بوست عربي بالقاهرة، سارة فودة، عرض الفيلم، لتأخذنا في جولة سريعة عن تلك التجربة السينمائية عبر هذا الموضوع. إذ تأخذك 130 دقيقة في تجربة سينمائية جريئة حول تجديد الخطاب الديني، والصراع الذي لا ينتهي بين السلطة والدين، ومحاولة مواجهة الفساد المتغلغل داخلهما، الذي لا يقود إلّا إلى التطرف والعنف. بالإضافة للإسقاط الرائع من خلال الأحداث لإيصال رسالة مفادها أنَّ التطرف ينبع من داخل البيئة الفاسدة التي تحتضنه. الصدفة تقود الشيخ "حاتم" نحو الشهرة تأتي اللقطات الأولى من الفيلم بشكل مختصر وسريع لتعرض قصة صعود الشيخ حاتم "عمرو سعد"، الذي قادته الصدفة إلى إلقاء خطبة مهمة بحضور مجموعة من الشخصيات السياسية البارزة بديلاً عن الشيخ الكبير "أحمد راتب" الذي أصيب بوعكة صحية مفاجئة. ثم الظهور بعد ذلك كضيفٍ في أحد البرامج التلفزيونية، وتتوالى بعدها الأحداث سريعاً حتى يصل إلى الشهرة والنجاح الكبيرين، والظهور في برنامج دعوي خاص به يتابعه آلاف المعجبين، الذي يحاول من خلاله تجديد الخطاب الديني عبر تقديم رؤية معاصرة مبنيَّة على نبذ التشدد، والتفسير المعاصر لأحكام الدين، وطبيعة الاقتداء بالنبي محمد. وتظهر من خلال اللحظات الأولى براعة أداء الممثل عمرو سعد وتطوره فنياً، حيث أتقن الدور بشكل قد يصل إلى الكمال، فجاءت طريقة نطقه للحروف وقراءته للقرآن مماثلة لطريقة شيوخ الأزهر، بالإضافة إلى انتقاله بحرفية وبشكل متقن بين الجدية والكوميديا. كما يستعرض الفيلم في الجزء الأول الجانب الشخصي من حياة الشيخ حاتم وزواجه من "أميمة"، التي تقوم بدورها الفنانة درة، إذ قامت بأداءٍ هادئ وبدت مناسبة للدور إلى حد كبير، على الرغم من صغر مساحة ظهورها خلال الفيلم، والتي جعلت شخصيتها لا تظهر لها أبعاد وتفاصيل كثيرة. جرأة الشيخ "حاتم" تقوده للمتاعب جرأة الشيخ حاتم في خطابه الديني وشهرة برنامجه وكثرة "مريديه" جعلته هدفاً لمؤسسات سياسية تحاول السيطرة عليه في بعض الأحيان وتوريطه في أحيانٍ أخرى من خلال أحداث متداخلة ومعقدة. إذ تأتي في البداية من خلال نجل الرئيس "جلال"، الذي يدعوه بشكلٍ مفاجئ إلى منزله للمساعدة في حل مشكلة تمر بها الأسرة، وهي ارتداد شقيق زوجة ابن الرئيس، الشاب الذي ينتمي لعائلة كبيرة ولأبٍ من كبار رجال الأعمال، ولكنَّه يحاول تغيير ديانته إلى الديانة المسيحية، فتتصدى له العائلة بالكامل خوفاً من فضيحة محتملة قد تُضعف مركز العائلة الحاكمة، ولذلك تطلب العائلة مساعدة "حاتم" في إقناعه بالتراجع عن ذلك، وتتوالى الأحداث حتى تنقلب الشخصية للنقيض المتطرف بشكل مفاجئ. قام بذلك الدور الممثل الشاب "أحمد مجدي" نجل مخرج الفيلم، ويُعتبر دوره من أكبر الأدوار في الفيلم لأنَّ الأدوار جميعها تدور في فلك الشخصية الرئيسية "حاتم"، وعلى الرغم من إعطائه بعض المساحة لكنَّه لم يوفق بشكل كبير في أداء الدور فجاء تمثيله باهتاً وغير مقنع في العديد من المشاهد. وعبرت هذه الشخصية عن إسقاط عميق، وهو أنَّ التطرف والعنف يترعرع داخل البيئة الفاسدة ويخرج من داخلها. قضايا دينية حساسة وتداخل السياسة مع الدين تناول الفيلم من خلال أحداثه مجموعة من القضايا الدينية الشائكة، والجريئة في طرحها بشكل جديد على السينما المصرية، من خلال محاولة الشيخ "حاتم" التحدث عن تقبل الآخر المختلف معك في الدين أو الفكر، وأنَّه لا يوجد فرق بين سني وشيعي، بالإضافة إلى انتقاده من يحاول تكفير معتنقي الديانة المسيحية. كما سلّط الفيلم الضوء على مشكلة الصوفيين في مصر، وأنهم يواجهون ضغوطاً وتشدداً لترك البلاد، واتهامهم بابتداع العديد من الأمور الدخيلة على الدين الإسلامي مثل الأضرحة وإقامة الموالد، وأتى ذلك من خلال دور أحد الشيوخ المتصوفة الكبار الذي يبجله حاتم ويحاول مساعدته. وتتشابك الأحداث ويعاني حاتم بسبب ذلك، وتبدأ محاولة الإيقاع به عن طريق الفتاة "نشوى" التي تؤدي دورها الممثلة ريهام حجاج، إذ تدعي أنَّها أحد مريديه، وتتناقش معه في قضايا دينية حساسة عن المعتزلة والاقتداء بالسنة النبوية. كما تناول الفيلم الاقتداء بالنبي محمد من خلال خطاب ديني عصري يشجع على عدم اتباع كل شيء في السنة النبوية بشكل يفتقد للتفكير العقلاني، وحاول الفيلم إيصال رسالة مفادها أن النبي محمد كان يقوم بالكثير من الأمور التي تتماشى مع ظروف عصره في ذلك الوقت، التي لا يجب أنْ نُقلدها الآن لأنَّها لا تتماشى مع عصرنا الحالي. كما تطرق الفيلم للعديد من الإشكاليات الدينية الحساسة الأخرى مثل النخاسة، وملك اليمين، وتعدد الزوجات، وحقوق المرأة. ويصف الشيخ حاتم من خلال أحداث الفيلم تداخل كل الأديان مع السياسة بشكل معبرٍ وصادم قائلاً: "المسيحية حين خرجت من بيت لحم أصبحت سياسة، والإسلام عند وفاة الرسول تحول إلى سياسة". كيف يرى الفيلم التطرف الديني؟ يُنهي الفيلم الصراع بشكلٍ يؤكد على أنَّ الشخص المتطرف لا يتحول إلى التطرف بسبب قناعة مبنية على عقيدة راسخة بداخله، ولكن في الأغلب بسبب ظروف وبيئة فاسدة نشأ فيها، قد تجعله يتجه من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بشكل سريع ومفاجئ، ويتجلى ذلك في دور شقيق زوجة ابن الرئيس. ويحاول الشيخ حاتم في نهاية الفيلم التأكيد على ضرورة ترك كل الطرق النمطية في معالجة القضايا الشائكة دينياً، فالاعتماد على تصوير مُعانقة الهلال مع الصليب، والشيوخ مع القساوسة، مع إلقاء بعض الكلمات الرنانة، لا يحل المشكلة من جذورها، ولا يتجاوز حيز الاستعراض السياسي. وقد جاءت في خطابه الأخير مقولة قد تكون إحدى العلامات المميزة لهذا الفيلم، وقد ترسخ في أذهان المشاهدين لسنوات قادمة، فقد قال في سياق كلامه: "علشان يكون في سلطة لازم يكون في عبيد، وعلشان يكون في أمن لازم يكون فيه خوف". مولانا على الجانب الفني جاءت موسيقى عادل حقي لتُضفي طابعاً خاصاً على الفيلم وتتداخل في شكل رائع مع أداء عمرو سعد. كما جاء تصوير أحمد بشاري بشكل جيد، من خلال كادرات سينمائية متقنه، ولكن ما يؤخذ عليه أنَّه لم يكن هناك عمق كافٍ في تلك الكادرات، أو أي رسالة منفصلة ومعبرة تبرر سبب التركيز عليها منفصلة عن العناصر الأخرى داخل الكادر الواحد. ولكن في النهاية استطاع المخرج مجدي أحمد علي تقديم عمل سينمائي مميز وجريء. تحجيم للأدوار الفنية ما يؤخذ على الفيلم أنَّ التركيز بالكامل كان على شخصية الشيخ حاتم، فأتت كل الشخصيات الأخرى باهتة وتدور في فَلَكِه بدون عمقٍ كافٍ، وربما كانت الأدوار الثانوية هي الأكثر حظاً. فتميز الممثل صبري فواز كالعادة في دور صغير، عن أحد قيادات الشرطة التي تحاول استجواب حاتم والضغط عليه، كما جاء أيضاً الممثل فتحي عبد الوهاب في دور ثانوي مؤثر في الأحداث، وهو دور الأنبا باخوم الذي يكشف غموض حادث مهم في نهاية الفيلم. وربما كانت الأسوأ حظاً من ناحية الظهور البسيط هي ريهام حجاج، فعلى الرغم من أهمية دورها الكبيرة في سياق الأحداث، إلا أنها لم تأخذ مساحة كافية للظهور، ولم يأتِ أداؤها حتى في مشاهدها القليلة على النحو المتوقع منها. كما ظهر المطرب أحمد الشامي في دور صديق البطل، ولم تظهر الأحداث مطلقاً كيف حدثت تلك الصداقة ولماذا؟ فهو صديق البطل الغامض، كما كان صديقا للأسرة الحاكمة، والذي يحاول الوقوف بجانب البطل في النهاية. فيما ظهر أيضاً الفنان بيومي فؤاد في دور المحاور الخاص ببرنامج الشيخ "حاتم"، الذي يحاول الإيقاع به، ورغم قلة مشاهده وعدم تبلور الدور بشكل كبير إلا أنَّ بيومي خرج في دوره هذا من عباءة الأدوار الكوميدية، وتمكن في مشاهده القليلة من فرض سيطرته، والأداء بشكل متميز. وعلى الرغم من أي مآخذ جاءت في الفيلم، فما زال الفيلم مرآةً لتجربةٍ جريئة ومميزة، كما يمثل نقلة في جرأة تناول الأمور الدينية في السينما المصرية ككل، ونقلة أيضاً في تاريخ الفنان عمرو سعد الفني.