تستنفر الطبقة السياسية في أوروبا، خصوصاً الأحزاب الحاكمة، خوفاً من تأثير الأخبار الكاذبة في نتائج انتخاباتها المتوقعة هذا العام، بعد الدور الذي لعبته هذه «الأخبار» العام الماضي في الانتخابات الرئاسية الأميركية وفي استفتاء بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي. ولا تزال الوعود تتابع من عمالقة التكنولوجيا، خصوصاً «فايسبوك» و «غوغل»، باستحداث أدوات لوقف انتشار الأخبار الكاذبة على وسائل التواصل الاجتماعي خصوصاً، والإنترنت عموماً، وحرمان مروجيها من عائدات الإعلانات الرقمية التي يستهدفونها. وهذا الاستنفار ضروري، ففي أوروبا تغذي الأخبار الكاذبة المشاعر المعادية للمهاجرين واللاجئين وتشكل وقوداً إضافياً لقطار اليمين المتطرف الذي يتأهب لابتلاع القارة. وفي أميركا، منحت مئات الأخبار الكاذبة زخماً لحملة دونالد ترامب، بعدما لعبت ببراعة على توقعات أنصاره الفعليين والمحتملين ومخاوفهم وإحباطاتهم. وفي حين لا يمكن الجزم بمدى تأثيرها في نتائج الانتخابات، فإن الأرباح الخيالية لصانعي الأخبار الكاذبة تؤكد أنها وصلت إلى جمهورها المستهدف. لا يمكن التقليل إذاً من ظاهرة الأخبار الكاذبة، وتأثيراتها الخطيرة، ليس فقط على سلامة الديموقراطية، بل على مستقبل السلم المجتمعي والعلاقات العرقية والطائفية، حتى في أعرق الدول مؤسسية وأكثر المجتمعات استقراراً. وهي جريمة تنبغي مكافحتها بكل الطرق المتاحة ومحاصرتها أينما كانت. لكن الاكتفاء بالإجراءات التقنية والانشغال الكسول بالإدانة والتحذيرات السياسية لا يكفي لمواجهة هذه الظاهرة. فالتدبر في وضع أحد أبرز مصانع الأخبار الكاذبة، يكشف أن الظاهرة تشبه ظواهر كثيرة خرجت من حواضن العولمة لتهدد بتخريبها بأدواتها. حين برز دور الأخبار الكاذبة في الانتخابات الأميركية، تقصّت وكالة «أسوشيتيد برس» أبرز المواقع المروجة لهذه الأخبار، لتجد أن أكثر من 200 منها مسجلة بأسماء مراهقين في بلدة مقدونية فقيرة اسمها فيليس، تفرغوا لاستهداف سوق الإعلانات الأميركية الغنية عبر اختلاق الأخبار التي تلاقي أهواء قطاع من الأميركيين. وهؤلاء المراهقون الذين توافدت وسائل إعلام غربية على بلدتهم تحدثوا بأريحية عن «عملهم» الذي يدر عليهم آلاف الدولارات شهرياً، وأحياناً عشرات الآلاف، باعتباره «فرصة» للعمل في بلدة أفقدها اقتصاد التقشف مصانعها التي كانت نافذة التوظيف الوحيدة فيها تقريباً، فتحولت «حزام صدأ»، على ما جرى الوصف الأميركي للمدن الصناعية المهجورة. ورغم أنه لا يمكن استبعاد ضلوع عصابات الجريمة المنظمة في هذه «الصناعة»، أو قوى اليمين المتطرف في أوروبا الشرقية، أو حتى الأجهزة الروسية التي نشطت برعاية مباشرة من الكرملين لتخريب الانتخابات الأميركية، كما تتهمها إدارة باراك أوباما وأجهزة الاستخبارات، إلا أنه لا يجب أيضاً إغفال أن كثيرين من هؤلاء المراهقين لم تحركهم سوى الرغبة في الكسب، أو ما تطلق عليه النيوليبرالية روح «المبادرة». في عالم التنافسية الشديدة وغياب العدالة الذي لا تتماشى فيه تطلعات الغالبية مع إمكاناتها، سعى هؤلاء إلى استنساخ اقتصاد «وادي السيليكون» على طريقتهم الخاصة. ويمكن اعتبار ما جرى أن «حزام صدأ» في مقدونيا يبحث عن فرصته بأدوات العولمة باع الخوف من تلك الأخيرة لـ «حزام صدأ» آخر في أميركا، وجه إليها ضربة بأصواته. بكلمات أخرى، مراهقو فيليس ليسوا سوى جنود مخلصين للعولمة. «مواطنون كونيون» يصنعون «سلعتهم» في طرف فقير، ويفصّلونها لتناسب ذائقة ومزاج مستهلك في مركز غني، أملاً بأن يتنزل عليهم بعض من الوفرة التي ينعم بها هذا المركز. وأي جهد لمعالجة ظاهرة مصانع الأخبار الكاذبة، والظواهر الشبيهة بها، يتغافل عن كونها نتاجاً أصيلاً لأزمة اقتصاد النيوليبرالية وقيمه، هو سعي محكوم بالفشل.