النسخة: الورقية - دولي كشفت حادثة مقتل القاضي الأردني رائد زعيتر، على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي، عن عمق المعضلة السياسية والأخلاقية التي يواجها النظام الأردني، وستواجهها، لاحقاً، الأنظمة التي «تسخّن» أجواءها النفسية لقبول إسرائيل كأمر واقع، و«تطبيع» العلاقات معها علانية. فالطريقة التي قُتل بها القاضي الأردني الفلسطيني، وهو ذاهب إلى مسقط رأسه مدينة نابلس، للحصول على مال لمعالجة طفله في عمّان، ألهبت مشاعر الغضب في نفوس الأردنيين جميعهم، بمختلف مشاربهم وانقساماتهم. بل إن البرلمان، الذي يُعدّ على المستوى الشعبي فاقداً للشرعية، أضحى مهرجاناً للخطابات النارية، التي أقلها طرد السفير الإسرائيلي من عمان، والإفراج عن السجين الأردني أحمد الدقامسة، الذي كان قتل عدداً من الفتيات الإسرائيليات، أثناء خدمته العسكرية العام 1997، وحُكم عليه بالسجن المؤبد. وكان من أكثر المُطالبات حماسةً إلغاء معاهدة وادي عربة بين الجانبين الأردني والإسرائيلي، التي وُقعت العام 1994. وفضلاً عن أن حادثة مقتل زعيتر، وظروفها الاستفزازية، كشفت أنه تعرّض للضرب والإهانة وإطلاق الرصاص، من دون أيّ سبب منطقي، ومن دون أن يُهدّد الأمن الإسرائيلي، فإن النظام السياسي ظهر في أضعف حالاته، وأشدها وهناً، إذ وقف عاجزاً عن إبداء أيّ ردّ فعل، وظلّ ينتظر، على أحرّ من الجمر، اعتذاراً إسرائيلياً، جاء متأخراً وخجولاً وفاتراً، وليس أكثر من «رفع عتب»، لتتزايد الضغوطات، من كل حدب وصوب، على حكومة عبدالله النسور، التي يهدّدها شبح الرحيل بين ليلة وضحاها. ومع أن الشعب الأردني لا يحتاج إلى سبب ليغضب، فهو يعيش حالة غضب مستعر دائم، بسبب ظروفه الاقتصادية، وتآكل هيبة الدولة، وتواري سلطة القانون، واستشراء الفساد، فإن حادثة القاضي رفعت أوار الغضب إلى مستوى المسّ برأس الحكم، عبر استذكار موقف الملك الراحل حسين حينما تعرض زعيم حركة حماس خالد مشعل، لمحاولة اغتيال في عمّان على يد الموساد، العام 1997، حيث هدّد الملك الراحل بإلغاء معاهدة وادي عربة، وإعدام المتورّطين في العملية، إن لم يتم إحضار «الترياق» الذي عُولج به مشعل من نيويورك. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، هو بنيامين نتانياهو نفسه. ويذكر كتاب «اقتل خالد» لبول ماغوو، الذي صدر بالإنكليزية، تفاصيل مثيرة للجدل عن تلك الحقبة الساخنة، التي لمع فيها نجم الملك حسين كقائد شجاع، وحاز شعبية منقطعة النظير، وأضحى مشعل رقماً صعباً في المعادلة الفلسطينية. ولعل استعادة تلك الحادثة، الآن، مردّه شعور الأردنيين بأن المعبر الذي قُتل قربه القاضي زعيتر، ويحمل اسم «معبر الكرامة» لا يستبطن معناه، ما جعلهم أمام مأزق أخلاقي ونفسي فظيع. فهم، في نظر أنفسهم، القابضون على جمرة الصبر والكبرياء والكرامة، أضحوا غير قادرين على القصاص، بسبب إحساسهم بعجز الدولة عن الثأر لكرامتهم التي جُرحت في وضح النهار، وعلى نحو يكتنفه الكثير من الصلف والعربدة والغطرسة الإسرائيلية. ويعزو أنصار الحكم موقف الدولة الأردنية إزاء هذه الحادثة، إلى قلة الأوراق التفاوضية في يدها، وانعدام الحلفاء، وضعف دورها، وانحسار تأثيرها الإقليمي، وثقل الأزمات التي تعاني منها، ما يجعلها عاجزة عن إغضاب أيّ طرف، لأن لأيّ غضب كلفة باهظة، ولأيّ موقف متسرع عواقب وخيمة، قد لا يدركها أولئك الغاضبون الذين تجمعوا تحت وابل المطر، وفي مواجهة متاريس الشرطة، وهم يهتفون «لا سفارة ولا سفير، والرابية بدها تطهير»، في إشارة إلى ضرورة طرد السفير الإسرائيلي من منطقة الرابية، الراقية في عمان، حيث مقرّ سفارة تل أبيب. لكنْ إن كان الأردنيون ينقسمون في كل شيء، فإنهم يتفقون بالإجماع، على كراهية إسرائيل، لا لأن نسبة كبيرة من الشعب الأردني من ذوي الأصول الفلسطينية، ممن اقتلعوا من أراضيهم وهجّروا وشرّدوا ومات ويموت أقرباؤهم كل حين، بل لأن إسرائيل، بممارساتها الوحشية المتواصلة، وإصرارها على الاستيطان، ويهودية الدولة، وعدوانها الذي لم ينقطع على الفلسطينيين والعرب، وشروطها التعجيزية لإقامة «سلام» مع خصومها وجيرانها، جعلت من نفسها جسماً غريباً في المحيط الجغرافي، ودفعت بعضهم إلى إسقاط الخيارات المُعتدلة، والعودة إلى المطالبة بـ «فلسطين من البحر إلى النهر»، وكذلك «إحياء الكفاح المسلح». ومن شأن هذه العدوانات الإسرائيلية أن تصبّ، في النهاية، لمصلحة تأصيل الصراع مع «الكيان الصهيوني»، وديمومته، وتحفيز القوى المتطرفة في الجانب المقابل، لا سيما وأن ماكينة الشرّ الإسرائيلي تعمل بشكل دؤوب، ما يجعل الدول العربية التي تُعِدّ للهرولة باتجاه تل أبيب تَعُدّ، ليس للعشرة، بل للألف، قبل أن تُقدم على خطوة «انتحارية» كهذه! * كاتب وأكاديمي أردني.