يتوقع كثيرون أن تكون 2017 سنة صاخبة سياسياً، وبصراحة أكبر: أن تكون سنة كارثية على أصعدة عدة. وتنظر التوقعات السلبية باتجاه الشرق الأوسط وآسيا، وتتابع بقلق ما سيقدم عليه دونالد ترامب ابتداء من 20 كانون الثاني (يناير) المقبل عندما يتسلّم مقاليد الحكم في الولايات المتحدة، وهو الذي قال عنه أوباما ذات يوم أنه لا يؤتمن على الحقيبة النووية، وما سيفعله بوتين بعد أن تصبح السبل سالكة أمامه ويترك له وحده مهمة إدارة الخراب السوري الهائل، وما سيقدم عليه نتانياهو عندما سيحظى بدعم أكثر الإدارات الأميركية ولاء لإسرائيل، في الرئاسة والكونغرس، والأخطر من ذلك كله أن تضاف إلى أزمات العالم الحالية أزمة مفتوحة وغير مسبوقة بين الولايات المتحدة والصين التي يعتبرها ترامب العدوّ الأكبر لبلاده لأنها دمرت صناعاته وأغرقت أسواقه، وعلينا أن نتذكر أن الرئيس الحالي للصين، شي جينبينغ، كان قد انتخب سنة 2013 على أساس برنامج يتضمن دعم قوة الدولة الصينية وهيبتها وتقوية الشعور الوطني لدى الصينيين والتصدّي «للمؤامرات والأفكار الهدامة» مثل الديموقراطية الليبرالية، وأنه يعدّ من الصقور. لكن في النهاية، قد تكون القارة الأوروبية هي الضحية الأكبر لسنة 2017، فهي تبدو الأقل تهيؤاً لمواجهة التحولات العالمية العميقة. لقد راهنت أوروبا على مسار اتحادها وكانت هذه المراهنة ناجحة في تجاوز تبعات انهيار عالم القطبية الثنائية وسقوط الكتلة الشيوعية، واستطاعت أوروبا آنذاك أن تعوّض ضعفها العسكري بفضل اقتصادها القوي الذي جعلته أداة مساومة تجاه روسيا والبلدان المنفصلة عن الاتحاد السوفياتي السابق. لكن مع تراجع القوة الاقتصادية للقارة الهرمة، أصبحت الوحدة الأوروبية مهددة أيضاً، وكانت بريطانيا، بدهائها المعهود، أول من يغادر المركب لينجو بنفسه، ويعيد ترتيب علاقاته التجارية والسياسية مع العالم على أساس مصالحه الذاتية لا غير. ومع أن الوحدة الأوروبية قد انطلقت بفضل التعاون الفرنسي - الألماني في عهدي الزعيمين كونراد أديناور وروبرت شومان، وترسخت بعد نهاية الحرب الباردة بفضل تعاون زعيمين من البلدين أيضاً، وهما هيلموت كول وفرنسوا ميتران، فإن الثنائي التاريخي يبدو اليوم عاجزاً عن دفع عجلة الاتحاد وتجاوز الأزمة الجديدة. ففرنسا مهدّدة في الانتخابات المقبلة، سنة 2017، بصعود قوي لأقصى اليمين، بما سيجعل أنظار سياسييها مشدودة إلى الداخل قبل كل شيء، لا سيما أن الديبلوماسية الفرنسية اتّسمت بالضعف في السنوات الأخيرة بسبب غلبة منطق التقاسم الحزبي للمناصب على منطق الكفاءة. ثم إن الاقتصاد الفرنسي يعاني أزمات هيكلية ويحاول بعسر الحفاظ على المكاسب الاجتماعية أمام ضغط العولمة المتوحشة التي لا تعترف بغير الربح السريع. وعلى عكس البلدان الغربية الأخرى، ما زالت النقابات العمالية الفرنسية قوية وقادرة على تعطيل كل القرارات الجديدة. ثم إن كلّ تراجع عن المكاسب الاجتماعية من شأنه أن يمنح المزيد من الشعبية لأقصى اليمين، بعد أن أصبح الاشتراكيون ليبراليين ولم يعودوا قادرين على استقطاب الفئات الشعبية. كان الأمل معلقاً على ألمانيا ذات الاقتصاد القوي المزدهر لتمثل محور عملية إعادة البناء الأوروبي وتفعيله، وأصبح يطلق على المستشارة أنغيلا ميركل لقب زعيمة العالم الحرّ منذ الإعلان عن فوز ترامب في أميركا، لكن العملية الإرهابية التي نفذها الإرهابي أنيس العامري في برلين يوم 19 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، قد تقلب الكثير من المعادلات. فقد أصبح الألمان يشكّون في صواب القرار الذي كانت المستشارة قد اتخذته في شأن السماح لأكثر من مليون لاجئ مسلم بالدخول إلى الأراضي الألمانية، ونجاعة نظام «شينغن» في حماية الحدود الأوروبية بعد أن تأكد أن الإرهابي الذي دخل أوروبا بطريقة غير شرعية تنقل بين إيطاليا وهولندا وفرنسا وألمانيا من دون عسر، في فترة كانت كل البلدان المعنية قد حشدت أقصى طاقاتها للتصدّي لعمليات إرهابية محتملة. وقد انتهى العديد من الانتخابات المحلية المنظمة أخيراً في ألمانيا بفوز أقصى اليمين، بما في ذلك انتخابات حصلت في المدينة التي ولدت فيها المستشارة، ومع أنه من المستبعد جداً أن يحقق أقصى اليمين الغالبية في الانتخابات التشريعية، فإنه قد يصل إلى نسبة تمثيل تمكّنه من تعطيل التحالفات والقرارات. هل يمكن الاتحاد الأوروبي أن يحافظ على وجوده من دون القاطرة الألمانية الفرنسية؟ وكيف سيكون مصير دوله إذا ما وجدت نفسها منفردة في مواجهة سنة صاخبة؟ وماذا سيحدث إذا نفذ ترامب تهديداته بتقليص الدعم الأمني لأوروبا والحلف الأطلسي؟ ينبغي دعم السيدة مركل وحلفائها، فهي الجديرة حقاً بأن تعدّ أمل أوروبا بالخروج من انفلات غير مسبوق، وتجاوز تهديدات ترامب وأقصى اليمين والإرهاب، وينبغي دعم ألمانيا أمام الإرهاب الذي يواجهها اليوم ودفعها الى الاستفادة من الأوضاع الحالية لاسترجاع مكانتها الدولية والخروج من الوضع الخاص المفروض عليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بدل التراجع بسبب ما تثيره العمليات الإرهابية من خوف يعيد إلى النفوس الكثير من الذكريات القديمة. صحيح أن مستقبل العالم سيحدّده مستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، لكن من المهم أن تظلّ أوروبا قوة تعديل، وذلك مهم أيضاً في تحديد مستقبل الشرق الأوسط وبلدان المتوسط. وهذه القوة التعديلية الأوروبية مرهونة اليوم وأكثر من أي وقت مضى بالوضع الألماني أمنياً وسياسياً واقتصادياً.