في السنة التي اندلعت فيها الحرب اللبنانية أي 1975، رأى الشاعر والروائي د. هنيبعل كرم النور، فترافق والحرب سنوات طويلة، وطبعت ملعب طفولته، وكان لها أثر على مقاعد دراسته عبر تساؤلات ارتسمت لديه حول المسار والمصير. مع ذلك، نما لديه شعور بحب الحياة، وراح يبحث عن السلام والهدوء بين الكتب والدفاتر، فكتب الحب والحنين مع شيء من النقمة وكثير من التمرد، ورسم الوطن كما يراه، أي وطن العدالة والحرية والاحترام والتعايش بين أبنائه. صحيح أنه من جيل الحرب في لبنان، إلا أن د. هنيبعل كرم لم يـتأثر سلباً بها، بل حولها إلى طاقة كامنة في داخله لفهم الحياة والعمل بشفافية وعصامية، بهدف البناء على أسس سليمة، وبناء شخصيته، وعائلته، وعمله ومستقبله ومستقبل أولاده، فنجح، لا على صعيده الشخصي فحسب بل على صعيد طلابه في جامعة البلمند حيث يدرّس الفلسفة والآداب العربية، بعد تخصصه فيهما، فضلاً عن نيله ماجستيراً في الدراسات الإسلامية- المسيحية في الجامعة نفسها. بعد رواية «فِصام»، وديواني شعر «حاضر في الغياب»، و«أجمعُ في صَدَفة» الذي ترجم إلى الألمانية، أصدر أخيراً ديواناً شعريّاً بعنوان «الإنجيل الثّالث عشر» (دار نلسن-بيروت)، سيطلقه في فبراير، وينكبّ على إنجاز رواية سيصدرها قريباً. فيما يلي حوار مع د. هنيبعل كرم حول مسيرته الأدبية وتقييمه الواقع الثقافي في لبنان والعالم العربي اليوم. الشعر هو لغة الروح، هو الإحساس، وسط بشاعات تحوطنا من كلّ جانب. هل ثمة حضور بعد للشعر؟ الشعر نافذة الروح الإنسانية في التّعبير عن قلقها وسعيها وفرحها ويأسها. إنه موجود وحاضر بقدر ما يكون الإنسان موجوداً وحاضراً في هذا العالم المقلق. كيف تقيّم الحركة الشّعريّة في السّنوات الأخيرة، لا سيّما مع بروز تجمّعات تعنى بالشّعر وازدياد الأمسيات الشّعريّة؟ أظنّ أنّ ثمة «فائضاً في الكلام» على حساب «ما له قيمة». ليست المشكلة في «الشعراء» فحسب، بل في مجتمعات عربيّة لا تملك رؤية واضحة إلى حركة الحياة وإلى المستقبل. ومَن يملك هذه الرؤية سيصطدم بمنظومات فكرية وسياسية وعقائدية لا رغبة لديها حتماً بأن تتزحزح. الأمسيات الشعرية جيّدة في الأحوال كافة، هي حركة ثقافية تحاول أن تقول شيئاً. المشكلة أننا غالباً ما نقرأ في هذه الأمسيات تعبيراً عن ذوات فرديّة تدور في فلك محدود. حبّذا لو نتجاوز ذلك إلى صناعةٍ إنسانية أوسع، تحضّرنا لقلب كلّ شيء {عقباً على رأس}، لأنّه مقلوب أصلاً. وماذا عن حركة «شهرياد»؟ «شهرياد» نموذج رائد بين المنتديات الشعرية، كونه توسّع، انطلاقاً من بيروت، ليتغلغل في شرايين الوطن، وإلى مناطق متعددة من لبنان، وهنا تكمن أهميّة «شهرياد» حيث أخرج الحركة الشعرية الثقافية من دائرة «المركزيّة» وما فيها من منافسة عقيمة وحروب مقنّعة، إلى حالة ثقافية عامّة تشحذ الطّاقات وتطلق القوى الثقافيّة الشبابيّة من «مخابئها». كان لبنان في ما مضى منارة الشّرق بالعلم والمعرفة، فهل ما زال محافظاً على موقعه اليوم، وكيف تقيّم الحركة الثقافيّة في لبنان؟ في لبنان مساحة للحريّة الشخصيّة والفكريّة أوسع، مقارنة بكثير من دول عربية أخرى، وهو ما أعطاه هذه الأهميّة تاريخيّاً، حيث استقطب أقلام كبار الشعراء والأدباء العرب. ولكن الحركة الثقافية في لبنان إلى تراجع وفي حالة من الفوضى العجيبة، وهي في كثير من الأحيان ممسوكة بمنطق المحسوبيات أو مخنوقة بمنطق الطوائف والسياسة للأسف. هذا من غير أن نتحدث عن نوعيّة الكتب المنشورة وعن نسبة القرّاء المتدنيّة، أو عن إقبال الجمهور وتفاعله مع ما له قيمة. الثقافة مسؤوليّة خطيرة، رُسُلها قدّيسون يعيشون قساوة الصّراع لأجل الأفضل، في مجتمع يميل إلى السّهل والسّريع والمربح. ما هو دور مواقع التّواصل الاجتماعيّ في المجال الثّقافي والفكري؟ هل هو بنّاء أو مدمّر؟ لها أثر بالغ طبعاً في عمليّة النشر والوصول إلى الناس بسرعة فائقة. إلّا أنّها سلاح ذو حدّين. وذلك لاستحالة خضوعها لرقابة نقدية بالمعنى العلمي الدّقيق، حيث تنهال على القارئ بالصّالح والطّالح. هذا عدا عن جرائم الانتحال وسرقة النّصوص وتزويرها أو تشويهها. تبقى العلاقة مع الكتاب متعة لا تضاهيها متعة. بين الواقع والخيال روايتك الأولى «فِصام» تتناول الحرب اللبنانيّة، فضلاً عن تجربتك الشّخصيّة، من أي منظار كتبت؟ من وجهة نظرك الخاصّة أو وفق أبعاد ومنطلقات من الواقع؟ «فصام» تجربتي الأولى في فن الرواية، وحمّلتها كلّ الشحنة الشعوريّة والفكريّة والنفسية التي احتفظت بها، أنا الخارج من رحم الحرب والمآسي والألم والخراب. حاولت أن أنقل صورة جيل يشاركني الضياع وانعدام الأفق والقلق من المستقبل، صورة التشوّه الذي أصاب أجيال ما بعد الحرب. قدّمت صورة لشاب ثائر على طريقته، يرفض مغادرة وطن الحرب والنار، ولكنّه لا يجد فيه ما يرضيه، فيحيا مأساته، كما كثيرون، بصمت يمزقه، وبقلق وفراغ كبيرين، لا يسدّ جوعهما إلا تفاصيل الحياة اليومية المملة التي يتمرّد عليها. أين دور الخيال في هذه الرّواية بالذّات؟ أراه في مكانين. الأوّل يكمن في صوغ الأحداث المعقّدة فيها بواقعيّة سرديّة تجعل منها احتمالات منتمية إلى عالمنا وإلى زمننا ومشاكلنا. والثاني تمثل في التّعبير بأسلوب أدبي وجداني، فلسفي أحياناً، نقل بصدق كلّ ما أردت قوله حول عدم الرّضى عمّا يحيط بنا. ما الّذي تبحث عنه في روايتك: الأرض المسلوبة، الحريّة المفقودة، أو الهويّة الضائعة؟ أبحث عن ذلك كله، في خضمّ تناقضات وصراعات عنيفة تجمع بين حبّنا لوطن نستشهد لأجله، ووطن/سجن لا يريدنا إلا شهداء. أبحث عن حياة عاديّة بسيطة فرحة، عن تربية جديدة. آن لهذه الأرض أن تتنفس، وآن لنا أن نكون متمرّدين على كل ما لا يليق بحياة الأحرار ولا بأخلاق الأحرار. أبعاد فلسفية ديواناك الشّعريّان «حاضر في الغياب» و{أجمع في صَدَفة»، يحملان أبعاداً فلسفيّة، فهل يتضمّنان رؤيتك إلى الواقع والإنسان، أم يرسمان عالماً تهرب إليه من الواقع؟ لطالما كانت الفلسفة وراء حركة التاريخ ورؤية الإنسان إلى الكون والعالم. على الشعر امتلاك هذه الرؤية وإلّا ستكون القصيدة كلاماً هباء. الشاعر بهذا المعنى فيلسوف يقول ما لديه بلغته الخاصّة. لا أقصد أن تكون قصائدي ذات بعد محدّد. إنّها تعبّر عن ذاتي التي تحاول وتسعى وتقاوم في عالم متوحش. الهرب ليس طريقاً يؤدّي إلى أيّ مكان. لكنّ خلق «فردوس مفقود»، أو حديقة سحريّة سريّة، قد يكون طريقة جيّدة للمضيّ حتّى النّهاية. هل يمكن أن تبني رواية على وقائع في المرتبة الأولى والمشاعر في المرتبة الثانية؟ وهل يمكن أن تبني قصيدة على المشاعر من دون الوقائع؟ نعم، بالرّغم من صعوبة ذلك وتعرّضه للنقد، فإنّه يمكن للقصيدة أن تخرج أحياناً مبنيّة على مشاعر تقلّ فيها الوقائع، حيث يكون الشّاعر واقعَها ووقائعَها. وأحياناً تخرج منه متجاوزة وعيه المباشر. إنّها بهذا المعنى حلم غير مفهوم بالكامل، ولكنّه جميل لأنّه يعبّر عن روح جميلة. أمّا كاتب الرواية فلا يمكن أن يتخلّى عن الوقائع، ولا عن وعيه وإحساسه بها. المشاعر في الرواية تُخرج الأحداث صادقة في تعبيرها وتعطي الرواية بعداً إنسانيّاً وأدبيّاً جذّاباً. هل ما زال ثمّة مكان للحبّ والرومانسية في هذا الزّمن البشع، وأين هما في نتاجك الأدبيّ؟ لا بدّ أن يكون ثمّة مكان لهما، على الرّغم من البشاعات الكثيرة، والأخرى الموروثة. ليس من أمر يستقيم بمعزل عن الحبّ. بعيداً عنه سيكون كلّ شيء حطباً يابساً أو أرواحاً زجاجيّة لا تملك غير الصّقيع. أظنّ أنّ كلّ ما يصدر عنّي، إنّما يصدر بدافع الحب والأمل. هل تؤيّد أنّ الزّمن اليوم هو للرواية وليس للشّعر؟ هذا ما هو حاصل عمليّاً؛ لكنّني أخشى الموافقة عليه. ما زلت أعتبر أن للقصيدة قدرة على النّفاذ والعبور إلى الإنسان بشكل أسرع وأكبر ممّا تقوم به الرّواية. ترجمة الشعر بعد ترجمة ديوانه «أجمعُ في صَدَفة» إلى الألمانية يوضح د. هنيبعل كرم رداً على سؤال حول تقييمه حركة ترجمة الشعر وإلى أي مدى يحافظ على جوهره في عملية الترجمة: للترجمة محاذير عدة، منها ما يتعلّق باللغة، ومنها ما له علاقة بالمترجم نفسه: بثقافته وسعة اطلاعه وإدراكه وبإحساسه أيضاً. فكيف الحال ونحن نتحدّث عن ترجمة الشعر؟! أدرّس اللغة والأدب العربيين وأفهم تماماً درجة الخصوصيّة فيهما، حيث تتفرّد العربيّة بمميّزات على مستوى الجرْس والأسلوب والتركيب والتأويل، ما يختلف كثيراً عن لغات أخرى. أقول إنّ الحظ حالفني إذ ترجم ديواني «أجمع في صَدَفة» د. سرجون كرم وهو شاعر في الأساس وأستاذ في الأدب العربي والألماني في جامعة بون، عاونه د. سيباستيان هاينه الخبير في علم اللغات الشرقية والقديمة.