على حدّ علمي لم يصدر أي كاتب سعودي رواية تنتمي إلى أدب الخيال العلمي. غير أن الأسوأ من ألا يصدر رواية في هذا النوع من الأدب هو أن ينظر إليه على أنه أدب من الدرجة الثانية؛ فهناك روايات بديعة كـ «آلة الزمن» للبريطاني هربرت جورج ويلز، ورواية «كوكب القردة» للفرنسي بيير بول، ورواية «فهرنهايت 451» للأميركي راي برادبوري الفائزة بجائزة بوليتزر (2007). أما الأسوأ من هذا السيئ فهو عدم قراءة أدب الخيال العلمي من القراء السعوديين. يمكنني أن أتفهّم عدم قراءة هذا النوع من الأدب؛ بضعف الوعي العلمي، وخفوت العقل العلمي، وبالنصوص التي تملأ الفضاء الاجتماعي العام بدلاً من التجارب العلمية، وتراجع الملاحظة العلمية والاستقراء العلمي والاستنباط في مقابل الاستشهاد بالنصوص، وفي «قيل وقال» بدلاً من «أجرى» و«صمم» و«لاحظ» و«استقرى» التي تشير إلى العقل العلمي. لقد ترتبت على هذا نتائج وخيمة؛ ذلك أن أقلّ الكتب مبيعاً هي الكتب ذات الخلفية العلمية وكتب الخيال العلمي. كما أنه لا توجد دور نشر مهتمة بأدب الخيال العلمي لا على المستوى المحلي أو العربي، ولم يحدث أن نظمت مسابقات متعلقة بهذا الشكل من الأدب، وأكثر من هذا خفوت الروح العلمية في المجتمع السعودي مما سيكون له أثر ضار على المستقبل؛ فحينما يتعرف الإنسان في فترة شبابه على أفكار علمية فإن قراءته ستؤثر في سلوكه. *** لا أتذكر متى قرأت رواية «آلة الزمن» للمرة الأولى، لكنني أتذكر رد فعلي تجاه «مسافر عبر الزمن» وقصته التي طلب منا أن نعتبرها أكذوبة أو نبوءة أو حلماً أو إبداعاً. يمكن لقارئ ما ألا يعتبرها كذلك إنما يعتبرها رواية «فنتازية»، لكنّ رواية الخيال العلمي كما هي «آلة الزمن» ليست رواية فنتازية إنما هي رواية خيال علمي، والسبب في ذلك هو إصرار رواية الخيال العلمي على المنطق بدلاً من الخيال؛ فالمسافر عبر الزمن لم يتخيل الحياة البديلة إنما ذهب إليها بآلته التي صنعها، وهي الآلة التي تخترق الزمن نحو الماضي أو المستقبل. وكما يلاحظ من قرأ الرواية فإن هذه الآلة الغريبة أرجأت قوانين الطبيعة لمصلحة قوانين أخرى هي قوانين الرواية. أتذكر من قراءتي الأولى تلاشي الإبداع في الزمن الذي رآه «المسافر عبر الزمن»؛ ففي الزمن الذي لم يأت بعد؛ أي في عام (ثمانمئة ألف وألفين وسبعمئة وواحد ميلادية) تتحدث الرواية عن أن الفن وعشقه سيتلاشيان، ولن يبقى من الفن إلا التزيّن بالأزهار، والرقص والغناء تحت الشمس. آنذاك أغلقت الرواية وقضيت دقائق أتخيل عالماً بلا فن، ولا بد من أن يكون عالماً موحشاً. منذ فترة قريبة أعدت قراءة الرواية، وذهلت من الفرق بين الرواية كما هي حين أعدت قراءتها وبين ذكرياتي عنها. وإذا كنت تذكرت من قراءتي الأولى تلاشي الفن من العالم، فإنني نسيت لماذا تلاشى الفن من العالم؟ وماذا يعني أن يتلاشى الفن؟ ولم أتذكر إلا بعد أن أعدت القراءة. ربما يروق سبب تلاشي الفن، لاسيما الشعر، لمن يذهب إلى أن الشعر لغة؛ ذلك أن تلاشي الفن في ذلك الزمن يعود إلى فقر اللغة في ذلك العالم البديل؛ فهي لغة مغرقة في الفقر والبساطة، لا تتضمن إلا الكلمات التي تشير إلى ما هو مادي ومحسوس من الأفعال، ولا تتضمن إلا القليل جداً من الأسماء المجردة، وبدهي أن يترتب على ذلك فقر في المجاز وهو عمود الفن القولي. وبغض النظر عن ضرورة الفن كما هو تعبير «فيشر» الذائع الصيت في كتابه المعروف «ضرورة الفن» فإن ويلز يدفع القارئ إلى أن يفكر في أن حياة بديلة ليست خيالاً؛ إنما هي احتمال منطقي، ومن الأفضل أن يكون هذا الاحتمال المنطقي جزءاً من رؤية القارئ العقلانية للعالم. ما هذه الحياة البديلة؟ الحياة التي تختفي منها كل فاعلية إنسانية؛ فالبشر في رواية «آلة الزمن» بلا عمل، ولا يوجد أي أثر لأي صراع اجتماعي أو اقتصادي. لا توجد تجارة، والبشر بلا قوة ذهنية ولا قوة جسدية، أجسامهم هزيلة وذكاؤهم محدود، واضمحلت طاقتهم الإبداعية. وهنا ربما يعجب هذا «فيشر» الذي يربط بين الفن والعمل، فمن دون العمل لن يكون هناك فن. *** لماذا اختفت الفاعلية الإنسانية؟ لماذا اختفى الصراع الاجتماعي والاقتصادي؟ لأن البشر انتصروا نصراً نهائياً على الطبيعة. وترتب على ذلك أن البشر لم يعودوا في حاجة إلى القوة؛ لأن القوة تتولد عن حاجة البشر الذين لم يعودوا محتاجين. ولم يعودوا في حاجة إلى العمل لأن ظروفهم المعيشية متيسّرة. لم يعد هناك مرض، ولا تحلّل ولا تعفّن. يشكّل هؤلاء الذين لا يعملون القسم البشري الأول؛ ففي ذلك الزمن انقسم الجنس البشري إلى قسمين؛ يجسّد فيه الانقسام الفجوة الاجتماعية بين المجتمع الرأسمالي والطبقة الفقيرة؛ ذلك أن الصناعة بدلاً من أن تكون على سطح الأرض انتقلت إلى أن تكون تحت سطح الأرض حيث يعيش أفراد الطبقة العاملة الذين انقطعوا عن سطح الأرض الطبيعي. يُسمّى القوم الذين يعيشون على سطح الأرض «الإيلوي» وهؤلاء أثرياء رأسماليون لا يعملون إنما يسعون وراء المتعة والرفاهية والجمال على سطح الأرض، أما القوم الآخرون فيسمون «المورلوك»، وهؤلاء هم الطبقة العاملة التي تعيش تحت سطح الأرض يدفعون مبالغ طائلة، ليس من أجل بيوتهم ولا من أجل أكلهم وشربهم؛ إنما أكثر من ذلك وأفظع وهو تهوية كهوفهم تحت الأرض بواسطة فجوات هوائية، وإن لم يدفعوا فلا بد أنهم سيموتون اختناقاً. وكما يلاحظ القارئ نرى هنا أن رواية الخيال العلمي يمكن أن تناقش المشكلات الاجتماعية وتجعل منها خلفية لها؛ فالفجوة بين الأثرياء والأغنياء هي مشكلة حقيقية في المجتمعات تعكسها رواية الخيال العلمي وفق رؤية المؤلف للنظام الاجتماعي، وخبرته به. إلى الآن ما زال «المسافر عبر الزمن» مسافراً في الزمان، ولا أحد سيعرف ما إذا سيعود في يوم ما. غير أن فتنة غيابه تكمن في أنه يتنقل بين الأزمنة، إذ يمكن أن يسافر إلى الجزء القديم من البشرية، أو أن يسافر إلى مستقبلها، ذلك ما يفتن، لاسيما حين تتخيل نفسك محله. * ناقد وروائي سعودي. آفاق