أقام أستاذ الفلسفة السياسية الأشهر في القرن العشرين الأميركي جون رولز في كتابه: فلسفة العدالة (1971) مقولته على مبدأ الإنصاف. وقال إنها ممكنةٌ بل مرجَّحة التحقق في الدول الحرة الحسنة التنظيم، أي التي تحولت فيها مبادئ العدالة إلى قوانين وأنظمة وسياسات. وعندما تكاثرت عليه الانتقادات من اليمين واليسار، باعتبار أنّه إذا انقطعت هذه المبادئ عن الأُسس والأصول وعن الغايات، تصبح مسائل إحصائية تُداخلُها الأهواء، أنكر ذلك وأضاف أن الأصول للنظرية هي «الوضع الأصلي»، أو ما صار يُعرفُ بالعقد الاجتماعي، الذي أقدم عليه بشرٌ أحرارٌ عقلاء أجمعوا على تلك المبادئ الضرورية لقيام الاجتماع البشري واستمراره، أمّا الغايات فهي استهدافُ إحقاق الخير العام. إنما في أعمال الدول وسياساتها فإنّ المطلب تحقيق العدالة القائمة على الإنصاف. وإذا كان شيء من ذلك قد تحقق في دول الغرب الليبرالية، والديمقراطية على وجه الخصوص، فإنه غير مستحيل التحقُّق على مستوى العالم، ومن الأمثلة على ذلك ميثاق الأمم المتحدة (1945)، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948). لماذا نذكر هذا كلَّه هنا والآن؟ لأنه بعد أربعين عامًا وأكثر على الاحتلال الإسرائيلي للقدس والضفة الغربية وغزة (1967) وبدء بناء المستوطنات في المناطق المحتلّة، أمكن لمجلس الأمن اتخاذ قرارٍ شبه إجماعي باعتبار المستوطنات أعمالاً غير قانونية وغير مشروعة بحسب القانون الدولي. لماذا أمكن ذلك أخيرًا وما كان ممكنًا من قبل؟ لأنه للمرة الأولى لا تستخدم الولايات المتحدة الأميركية حقَّ النقض أو «الفيتو» ضد مشروع القرار الذي قدمته أربع دولٍ (كانت خمسًا ثم انسحبت منها مصر، وهي الدولة العربية الوحيدة بينها!)، ووافقت عليه أربع عشرة دولة، وامتنعت الدولة الأميركية للمرة الأولى عن التصويت دونما اعتراضٍ بـ«الفيتو». بماذا كانت الولاياتُ المتحدة تعتذر عندما كانت تستخدم «الفيتو» ضد كل مشاريع القرارات بشأن فلسطين؟ ما كانت بالطبع تعتذر أو تُعلِّل بالعدالة أو الإنصاف، بل بأنّ قراراتٍ كهذه تعرقل الاستمرار في المفاوضات بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني بشأن السلام، إذ إن إنفاذ قراراتٍ مثل الـ«242» أو «338» بشأن الانسحاب من الأراضي المحتلة أو عدم البناء عليها، يتطلب موافقة إسرائيل وذلك متعذر. لكنْ ماذا لو صدر القرار تحت الفصل السابع (الإنفاذ بالقوة)؟ هذا متعذرٌ أيضًا لأنّ أحدًا من القوى الكبرى القادرة لن يقاتل أو يحاصر إسرائيل، ثم لأن إسرائيل قوةٌ نوويةٌ أيضًا! هل يعني هذا أنّ التفاؤل سابق لأوانه، بمعنى أنه لن تكون للقرار مفاعيل على الأرض؟ الأرجح أن لا تكون للقرار تأثيرات عملية في المدى القريب على الأقل، كما لم يستطع أحد إرغام إسرائيل على الانسحاب من الأراضي المحتلة رغم القرارين الدوليين الشهيرين الـ«242» و«338»! ما فائدة القرار الجديد إذن؟ يقول الفرِحون: له فوائد إعلامية وقانونية، وشأنه في ذلك شأن قرار محكمة العدل الدولية ضد «السور الواقي» الذي بنته إسرائيل، وما أمكن لقرار محكمة العدل الذي حظر ذلك أن يُزيح السور قيد أُنمُلة! ولماذا نُبعد كثيرًا؟ فقد اتخذ مجلس الأمن قرارًا جماعيًا رقم 2216 بشأن الانقلاب في اليمن قبل أكثر من سنتين ولصالح الحكومة الشرعية. وها هي الدول الكبرى التي وافقت على القرار وتحمست له، وبينها بريطانيا والولايات المتحدة، تتوسط من أجل حلٍ يعترف بالحوثيين ويُشركهم في السلطة، في مقابل وقف إطلاق النار، ودون أن تحظى القوتان الكبيرتان حتى الآن برضا الحوثيين الأكارم! ولماذا كل هذا؟ لأن إيران ولية أمر الحوثيين تريد الاستمرار في إزعاج المملكة العربية السعودية على حدودها البرية والبحرية! وكما في حالتي فلسطين واليمن، لدينا الآن، نحن العرب، المسألة السورية، لكنها هذه المرة مع موسكو. في عام 2012، وقبل أن تعتزم موسكو التدخل العسكري في سوريا، وافقت على بيان جنيف من أجل حل سياسي للنزاع بين النظام السوري وشعبه. ثم وافقت بعد التدخل على قرار يتعلق بالشؤون الإنسانية. لكنها ومنذ سنتين ونيِّف تتشارك مع إيران والنظام الغاشم في قتل السوريين وتهجيرهم بالملايين. وها هي الآن وبعد مذبحة حلب، تريد المُضي إلى «حلٍ سياسي» ليس على أساس جنيف، بل تشرف عليه بالشراكة مع إيران وتركيا في كازاخستان، ويحضر فيه إلى جانب النظام الأسدي «معارضون» اختارتهم هي، وهؤلاء ما اختلفوا مع النظام قتاليًا ولا سياسيًا. وبين هذا وذاك استخدمت موسكو «الفيتو» في مجلس الأمن عدة مرات للحيلولة دون اتخاذ قرار يؤكد على بيان جنيف، وعلى القرار المتعلق بالشؤون الإنسانية! عندما تعلق أمر «العدالة والإنصاف» بالشأن الفلسطيني إذن، كانت الولايات المتحدة هي التي تحمي الكيان الإسرائيلي من العدالة الدولية. وعندما تعلق أمر «العدالة والإنصاف» بالشأن السوري، فإنّ موسكو هي التي تتولى حماية النظام القاتل لشعبه، وبحجةٍ أضعف بكثير من حجة الولايات المتحدة إزاء إدانة إسرائيل، إنها هذه المرة: مكافحة الإرهاب! وإذا كان تنظيم داعش الإرهابي قد قتل حتى الآن زُهاء الأربعين ألفًا من سائر الأطراف (النظام وخصومه)، فماذا نسمّي النظام الذي قتل ستمائة ألف، وهجّر عدة ملايين، تحت سمع العدالة الدولية وبصرها؟! لقد كانت الشكوى العربية منذ أواخر الأربعينات تجاه العدالة الدولية تتمثل فيما سموه «ازدواجية المعايير» أو كما يقول المثل اللبناني: صيف وشتاء على سطحٍ واحد. بيد أن الأوضاع الجديدة، التي امتدت إلى سوريا واليمن وليبيا والعراق، أظهرت الحاجة إلى البحث عن اسمٍ آخر للأهوال الحالية، إذ ما عاد الدوليون يعملون في مجالنا بمعايير مزدوجة، أي ما يسري علينا لا يسري على إسرائيل وإيران مثلاً، بل تجاوز الأمر ذلك. فكل المشكلات الحالية صارت فيها قراراتٌ دوليةٌ لا يُنكرها الروس والأميركان والصينيون، لكنهم لا يريدون إنفاذها. وهي تقوم ليس على اعتقاد الحقّ في هذا التحزب أو التبني أو ذاك، بل على اعتقاد المصلحة الخاصة، وعلى حماية الحلفاء بغضّ النظر عن العدالة وعن الارتكابات بحقّها! بل إنّ كلَّ طرفٍ يُجاهر بتبنّي هذا القرار أو ذاك أو هذه القيمة أو تلك من مبادئ العدالة والقانون الدولي الإنساني، ثم يعمد المتبنّي بنفسه إلى مخالفة القرار، وأحيانًا دون تعليل، لأنه يعرف أنّ أحدًا لن يجرؤ على تحدّيه! لقد سُئل جون كيري أخيرًا عما يقوله لافروف بشأن الهدنة في حلب، والاتفاقات مع الولايات المتحدة بشأنها، والتي تراجع كيري عنها، فأجاب: ما عدتُ أعرف ما اتفقنا عليه وما اختلفنا فيه، لأن الروس تتغير آراؤهم كل يومٍ تقريبًا! ما عادت الشكوى مُجْديةً بالطبع بعد كوارث فلسطين وسوريا والعراق، وحالات أخرى كثيرة. فالقضايا عاجلة ولا ينكر أحد ذلك. لكنّ تعطيل القرارات أو عدم إنفاذها علته الظاهرة الضعف العربي، والمضي من تسوية إلى ما هو أدنى منها. في الوقت الذي تستمر فيه المعاناة الهائلة وغير الإنسانية في كل مكانٍ تقريبًا. ويا للعرب!