زاوية نعرض من خلالها لكل ما يعن لقراء «الراي» الأعزاء من أمور تتعلق بالعقيدة الاسلامية، وتحتاج الى توضيح وبيان، يجيب عنها الأستاذ الدكتور وليد محمد عبدالله العلي، امام وخطيب المسجد الكبير، والعميد المساعد بكلية الشريعة والدراسات الاسلامية جامعة الكويت. وللتواصل أرسلوا بأسئلتكم عبر إيميل الجريدة (w-alali@hotmail.com) أو فاكس رقم: (24815921) الاستعاذة بالله من الأربع: نفس وقلب وعلم ودعاء أخرج أحمد والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: انِّ نبيَّكم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (اللَّهُمَّ انِّي أعوذ بك من نفسٍ لا تشبع، وقلبٍ لا يخشع، ومن علمٍ لا ينفع، ومن دُعاءٍ لا يُسمع، اللَّهُمَّ انِّي أعوذ بك من هؤلاء الأربع). فقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في دُعائه: (اللَّهُمَّ انِّي أعوذ بك من نفسٍ لا تشبع): فيه الاستعاذة من شُحِّ نفسٍ لا تقنع؛ ومن حرص وشجع من لا يشبع. وهذه الاستعاذة تشمل: المأكل والمشارب والمناكح والملابس والمراكب والمناصب، فلا تزال النَّفس ان لم تشبع بما أخذت ولم تقنع بما أُعطيت في غمٍّ دائمٍ وفي همٍّ واصبٍ. فمن ابْتُلِيَ بنفسٍ لا تشبع فقد طال أملُه، ومن امْتُحِنَ بشُحِّ من لا يقنع فقد ساء عملُه. فلن تشبع نفسٌ أبداً كانت الدُّنيا همَّها، فكُلَّما فاتها منها شيءٌ غمَّها وهمَّها، فعن زيد بن ثابتٍ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: (من كانت الدُّنيا همَّه: فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدُّنيا الا ما كُتب له، ومن كانت الآخرة نيَّته: جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدُّنيا وهي راغمةٌ) أخرجه أحمد وابن ماجه. النَّفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خيرٌ من غنى يُطغيها. وغنى النُّفوس هو الكفاف فان أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها. وقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في دُعائه: (وقلبٍ لا يخشع): فيه الاستعاذة من القلب القاسي الذي لا يلين ولا يخشع لذكر الله، والفؤاد الذي لا يسكن بطاعة سيِّده ولا يطمئن لسماع كلام مولاه. فالقلب هُو محلُّ نظر الله تعالى ومُستقرُّ خشيته، فويلٌ لمن قسَّاه بتجرُّئه على مُخالفته ومعصيته، قال الله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلاِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ اِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}. وقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في دُعائه: (ومن علمٍ لا ينفع): فيه الاستعاذة من علمٍ يتعلَّمه المُتعلِّم ولا ينتفع بحقيقة العمل به في الباطن والظَّاهر، ولا يحرص على نفع النَّاس به فلا يُقوِّم أفعالهم ولا يُهذِّب أقوالهم بمعينه الطَّاهر. فمن علَّمه الله تعالى علماً فلم ينتفع به نُزع عن جلباب الكرامة، وكان من أوَّل النَّاس الذين يُقضى عليهم في عرصات يوم القيامة، فعن أبى هُريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: (انَّ أوَّل النَّاس يُقضى يوم القيامة عليه: رجلٌ استشهد، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتَّى استشهدت. قال: كذبت، ولكنَّك قاتلت لأن يُقال: جريءٌ. فقد قيل، ثُمَّ أُمر به فسُحب على وجهه حتَّى أُلقي في النَّار، ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه وقرأ القُرآن، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلَّمت العلم وعلَّمته وقرأت فيك القُرآن. قال: كذبت، ولكنَّك تعلَّمت العلم ليُقال: عالم، وقرأت القُرآن ليُقال: هُو قارئٌ. فقد قيل، ثُمَّ أُمر به فسُحب على وجهه حتَّى أُلقي في النَّار. ورجلٌ وسَّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كُلِّه فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيلٍ تُحبُّ أن يُنفق فيها الا أنفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكنَّك فعلت ليُقال هو جواد. فقد قيل، ثُمَّ أُمر به فسُحب على وجهه ثُمَّ أُلقي في النَّار) أخرجه مُسلمٌ. وقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في دُعائه: (ومن دُعاءٍ لا يُسمع): فيه الاستعاذة من دُعاءٍ حيل بينه وبين ما يشتهيه الدَّاعي من الاجابة والقبول، فقد منع اعتداء السَّائل وقطع استعجال المُضطرِّ من بُلوغ المرام وتحقيق المأمول. والدُّعاء امَّا أن يُسمع فيُستجاب لمن دعا به في دُنياه، وامَّا يُصرف عنه من السُّوء مثله أو يُدَّخر له في أُخراه، فالحسرة ممَّن حُرم هذه الثَّلاثة وذلك كُلُّه بما قدَّمته يداه، فعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (ما من مُسلمٍ يدعو بدعوةٍ ليس فيها اثمٌ ولا قطيعة رحمٍ الا أعطاه الله بها احدى ثلاثٍ: امَّا أن تُعجَّل له دعوته، وامَّا أن يدَّخرها له في الآخرة، وامَّا أن يصرف عنه من السُّوء مثلها. قالوا: اذاً نُكثر. قال: الله أكثر) أخرجه أحمد. وقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في دُعائه: (اللَّهُمَّ انِّي أعوذ بك من هؤلاء الأربع): فيه التَّأكيد على شدَّة الحرص على الاستعاذة في كُلِّ حينٍ من هؤلاء الأربع، فأيُّ انتفاعٍ بنفسٍ لا تشبع وقلبٍ لا يخشع وعلمٍ لا ينفع ودُعاءٍ لا يُسمع؟ فالنَّفس انَّما تطمئنُّ حقيقة اذا تجافت عن دار الغُرور وأنابت الى دار الخُلود، فاذا كانت نَهْمَة لا تشبع كانت أعدى عدوِّ المرء تدعوه للاعراض والصُّدود. والقلب انَّما خُلق ليطمئنَّ بذكر الله وتسكن خشية المولى سُبحانه فيه، فاذا لم يَلِن ولم يُنِب كان ذلك دلالة على تباعده عن الخُشوع وتجافيه. والعلم انَّما جاء التَّرغيب بالتَّزوُّد منه وسُلوك سبيله لأنَّه يُرشد العبد لمصالح دينه ودُنياه، فاذا لم يحصل الانتفاع به كان وبالاً على مُتعلِّمه في أُولاه وحُجَّة عليه في أُخراه. والدُّعاء انَّما ورد الحثُّ عليه لأنَّ عاجل بُشرى المُؤمن بقُرَّة العين باجابته، فاذا لم يُسمع ذهبت نفس الدَّاعي عليه حسراتٍ واستشعر سُوء عاقبته.