يعاني الإعلام المصري منذ نحو ست سنوات حالة تشبه الفوضى، فقد تراجع إعلام الدولة، ولم تُبذل أي جهود حقيقية لتطويره وتحويله الى إعلام خدمة عامة، وتعاظم حضور وتأثير الإعلام الخاص الذي تملكه وتديره مجموعة من رجال الأعمال، يتدخل معظمهم في الإدارة والسياسات التحريرية. في هذه البيئة المضطربة، كان من الطبيعي أن تغيب القواعد المهنية ومواثيق الشرف، وترتفع مستويات التسييس المباشر، ويتقلص التنوع والتعدد. مظاهر الفوضى كثيرة، وأحد أهم التفسيرات وأكثرها رواجاً هو غياب التشريعات والقوانين أو تقادمها، وعدم وجود نقابة للعاملين في الإذاعة والتلفزيون، وتمّ تركيز النخبة السياسية وجماعة الإعلاميين على سد هذا النقص، لذلك نص دستور 2014 على حرية الرأي والتعبير، وعلى الحق في الحصول على المعلومات، علاوة على إنشاء ثلاث هيئات لتنظيم الإعلام، وحدَّد أهدافها وصلاحياتها، لكن بقيت الإشكالية في تفعيل هذه النصوص في قوانين تنظم الإعلام وتضمن حريته، وهو ما تمّ إنجاز بعضه أخيراً، حيث وافق أعضاء البرلمان– باستثناء أربعة نواب – على قانون لإنشاء المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، وهيئة للصحافة، وهيئة للإذاعة والتلفزيون، ويتولى المجلس تنظيم الإعلام والإشراف عليه، ومنح التراخيص ومنع الاحتكار، والتدقيق في مصادر التمويل، ومنح سلطات وصلاحيات واسعة، تصل إلى إغلاق الوسيلة الإعلامية المخالفة. أما هيئة الصحافة فقد اختصت بإدارة وتطوير الصحافة المملوكة للدولة، بينما تدير الهيئة الوطنية للإعلام الإذاعة والتلفزيون الحكوميين. كما وافق البرلمان على إنشاء أول نقابة للعاملين في الإذاعة والتلفزيون العام والخاص. ولا شك في أن أي محاولة لتنظيم الإعلام قد تتحول إلى عملية لتقييد حريته، خصوصاً إذا استندت- كما هي الحال في مصر- إلى مجموعة من القوانين فقط، تعتمد على خبراء أكفاء في عملية الصياغة والتشريع، وعلى غالبية كبيرة في البرلمان، من دون أن يسبق ويرافق ذلك حوار مجتمعي، يحدد طبيعة ودور الإعلام في النظام السياسي، وأيضاً من دون توافق بين الإعلاميين على نصوص القوانين. ما حدث كان في حدود جدل ونقاش حول قانون الهيئات الثلاث من زاويتين: الأولى، أنه لم يعرض على نقابة الصحافيين والمجلس الأعلى للصحافة، والثانية، أن هناك مشروع قانون موحداً لتنظيم الإعلام، كانت قد توافقت عليه لجنة مكونة من خمسين إعلامياً في أيلول (سبتمبر) 2015، ويشمل مواد لتنظيم الصحافة الورقية والرقمية والإذاعة والتلفزيون، وحقوق وواجبات الصحافيين والإعلاميين، وينص أيضاً على إنشاء الهيئات التنظيمية الثلاث. وبالتالي كان من الضروري الأخذ به وتفعيله، لأنه لا يصح إنشاء هيئات تنظيمية من دون أن تكون هناك قوانين تحدد حقوق وواجبات الإعلاميين، خصوصاً أن بدء عمل الهيئات الثلاث يترافق مع إلغاء قانون تنظيم الصحافة واتحاد الإذاعة والتلفزيون المعمول به حالياً. لكن هذا الموقف مردود عليه، إذ ينص الدستور على إنشاء الهيئات التنظيمية الثلاث، على أن تعرض عليها قوانين الصحافة والإعلام، وبالتالي فإن إصدار قانون موحد للإعلام يشمل حقوق وواجبات الصحافي، وكذلك تشكيل الهيئات كما ذهبت لجنة الخمسين يمثل مخالفة دستورية. من هنا قرر مجلس الدولة ولجنة الثقافة والإعلام تقسيم القانون إلى قانونين، حتى لا يتعرض للطعن أمام المحكمة الدستورية، ويتناول القانون الأول إنشاء الهيئات التنظيمية الثلاث، والثاني سيصدر قريباً ويحدد واجبات وحقوق الصحافيين. لكن هناك وجهة نظر أخرى ترى أنه لا توجد شبهة عدم دستورية في عرض قوانين الصحافة والإعلام على الهيئات الثلاث، إذا لم تكن هذه الهيئات مشكّلة بالفعل، لأن وضعها منشأ، كما أن هناك العديد من الحالات التي لم يتم فيها الالتزام بمواد الدستور في ضوء احتياجات الواقع السياسي والاجتماعي وظروف مصر، ومنها على سبيل المثل عدم الالتزام بالنص على إجراء الانتخابات البرلمانية خلال ستة أشهر من إقرار الدستور. وبغض النظر عن الاختلاف على تأويل مواد الدستور، فإن الجدل والنقاش حول تقسيم مشروع لجنة الخمسين، والبدء بقانون تشكيل الهيئات، كشف عن غياب الثقة بين قطاع مؤثر من الإعلاميين والبرلمان، وعدم قدرتهما على إدارة حوار. وتتعلق أزمة الثقة بمخاوف لها ما يبررها من أن تطول فترة غياب قوانين للصحافة والإعلام مع وجود ثلاث هيئات لها سلطات واسعة وقد تكون باطشة. أزمة الثقة ليست هي المشكلة الوحيدة في البيئة التشريعية والإعلامية الحالية، وإنما غياب الرؤية السياسية وعدم الاهتمام بتفعيل دور المجتمع المدني في حماية حقوق المواطنين في الاتصال والإعلام، وممارسة نوع من الرقابة الشعبية على أداء الإعلام والإعلان. وتجدر الإشارة إلى أن قانون التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام (الهيئات الثلاث) لم يطرح لحوار مجتمعي، وكأن الإعلام شأن خاص بالبرلمان وجماعة الإعلاميين. على أي حال صدر قانون الهيئات الثلاث واعتمده الرئيس عبدالفتاح السيسي، كما صدر قانون بإنشاء نقابة للإعلاميين، ويمكن إبداء خمس ملاحظات نقدية عامة، سأحاول معالجة بعضها في اللوائح التنفيذية التي تفسر وتفعل القانونين: أولاً: إن مشروع قانون الإعلام الموحد لم يكن خالياً من العيوب، فقد اتسم برؤية سلطوية للإعلام، واتخذ موقفاً سلبياً من الإعلام الجديد New Media، كما لم يضع أسساً موضوعية لضمان الاستقلال المالي والإداري للهيئات التنظيمية الثلاث، رغم أنه منحها سلطات واسعة من دون النص على رقابة شعبية أو برلمانية، وقد نقل قانون التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام (الهيئات الثلاث) هذه العيوب وتوسع فيها، حيث منح السلطة التنفيذية ورئيس الجمهورية الحق في اختيار غالبية أعضاء الهيئات الثلاث، من خلال إلزام النقابات المهنية وهيئات أخرى بترشيح ضعف العدد المطلوب منها تسميته، على أن يقوم الرئيس باختيار العدد المطلوب من بين الشخصيات المرشحة. ثانياً: عكست مواد القانونين الفكر القديم السائد لدى معظم المشتغلين في الصحافة والإعلام، وهو فكر حبيس الماضي وأشكال الإعلام التي عرفتها البشرية في القرن العشرين، وبالتالي لا يتابع ما يجرى في العالم، ولا يرى المستقبل، ولا يسلم ببديهية أن تكنولوجيا الاتصال والتطور السريع في انتشار خدمات الإنترنت هي التي تقود مستقبل الصحافة والإعلام ومستقبل الدراسات والبحوث الإعلامية. إن التسليم بالحتمية التكنولوجية وثورة الإنترنت يعني أن هناك دمجاً وتكاملاً بين كل وسائل الإعلام، وأن الوسيلة الإعلامية هي البطل في الاتصال الجماهيري، والذي لم يعد بعيداً أو متعالياً على التفاعلات اليومية للمواطنين عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ثالثاً: همّش قانون التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام دور شباب الإعلاميين، على الرغم من كونهم يمثلون أكثر من ثلثي العاملين في الصحافة والإعلام، وكان من الضروري تمثليهم بنسبة ما في تشكيل الهيئات التنظيمية الثلاث. رابعاً: لم تهتم مواد قانون التنظيم المؤسسي بما يُعرف بحقوق المواطن الاتصالية والإعلامية، وحقه في التفاعل وإنتاج مواد إعلامية، وإنما أكدت دوره التقليدي في التلقي السلبي للمواد الإعلامية التي تقدم له، وهو أمر غير منطقي يتعارض مع الفرص الهائلة التي توفرها تكنولوجيا الاتصال. خامساً: التزم قانون نقابة الإعلاميين بمنهج التضييق في ضم الأعضاء، تماماً كما تفعل نقابة الصحافيين، فلم يعدد أنواع العضوية، ويفتح المجال أمام العاملين في الإعلام الجديد، رغم أنه هو المستقبل سواء في الإذاعة أو التلفزيون، والأهم أن القانون نص على أن الحكومة تشكل لجنة من 11 إعلامياً لتأسيس النقابة واختيار الأعضاء، ووضعِ ميثاق شرف إعلامي موقت، بدلاً من أن يُمنح هذا الحق للإعلاميين أنفسهم من دون تدخل الحكومة. في الختام مهما كانت الملاحظات حول قانون التنظيم المؤسسي للصحافة وقانون نقابة الإعلاميين، فإن الرهان يبقى على التطبيق والممارسات الفعلية في أرض الواقع، وهنا لا بد من الحذر، لأن الخبرة المصرية تشير إلى أن النصوص الدستورية كانت دائماً متسامحة وديموقراطية (دستور 1971 مثلاً)، لكن القوانين تأتي لتضيق الحريات التي أقرها الدستور، ثم تأتي اللوائح التنفيذية لتضيف مزيداً من القيود الى ما جاء في القانون. وبعد كل هذا التضييق فإن القانون أحياناً لا يُطبق. على أمل أن لا تستمر هذه الخبرات السلبية، وأن تعكس الممارسات المستقبلية تنظيماً وليس تقييداً لحرية الإعلام. * كاتب مصري