تنطلق روسيا بأقصى زخم. لقد شعر فلاديمير بوتين بكرَبٍ شديد عند انهيار الاتحاد السوفياتي، واليوم يسعى جاهداً لضمّ أكبر عدد ممكن من الدول تحت جناح موسكو، ويعمل على توسيع قاعدة النفوذ الروسي في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. ما يثير القلق كثيراً هو عجز المجتمع الدولي عن ردع بوتين. فقد استولى على القرم مع إفلات من العقاب عملياً، ولم تردعه مجموعة من العقوبات العقيمة التي أثارت حفيظة الدول القريبة من الحدود الروسية. يبدي العديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي تعتمد على الغاز الروسي رغبة شديدة في تجنّب فرض مزيد من العقوبات على روسيا، ويختار بعضها التهدئة. غير أن التهدئة لا تؤدّي إلا إلى منح جرعة زخم للخصم، فهذا ما اكتشفه رئيس الوزراء البريطاني السابق نيفيل شامبرلين ودفع ثمنه من رصيده في مستهل الحرب العالمية الثانية. مازلنا ننتظر لنرى المسار الذي سيسلكه الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، لكن على ضوء إعجابه بالرئيس الروسي الذي أعلنه على الملأ، واختياره ريكس تيلرسون لمنصب وزير الخارجية، علماً بأن هذا الأخير يتباهى بروابطه الوثيقة مع ترامب في الأعمال وعلى المستوى الشخصي، لا أمل لدي بأن تعمد الإدارة الأمريكية العتيدة إلى كبح الطموحات الروسية، ولا سيما في الملف السوري. برأيي، أسوأ جريمة ارتكبها بوتين هي دعمه لواحد من الأنظمة الأكثر دموية في التاريخ المعاصر؛ نظام ليس لديه ذرّة من التعاطف، لا بل لا مشكلة لديه في قصف شعبه وتعذيبه وتجويعه، في حين أن واجبه حمايته. أشعر بخيبة أمل شديدة لأن عدداً كبيراً من رؤساء الدول، وأحدهم يعارض بشدّة فكرة مشاركة الرئيس السوري بشار الأسد في عملية انتقال سياسية، لا بل يعارض بقاءه في السلطة، لم يعودوا يطالبون برحيل الدكتاتور. قبل عام ونيف، كانت القوات التابعة للنظام قد بلغت تقريباً نقطة الانهيار وأصبحت على حافة الهزيمة. جيش الأسد صغير الحجم نسبياً، وقد أقرّ بأن جنوده أصيبوا بالتعب. وتوقّع الخبراء أن أيامه باتت معدودة. ثم تخلّت المعارضة المعترَف بها دولياً عن كل الأوراق تقريباً التي تمنحها نفوذاً، وذلك من أجل التوصل إلى تسوية سياسية. وقد استغلّت روسيا الفراغ الذي تركه انكفاء الرئيس باراك أوباما وإحجامه عن التحرك وممارسة نفوذ واسع، ما أحدث تحوّلاً في المشهد لمصلحة الأسد. اليوم يسيطر النظام السوري على جميع المدن السورية الكبرى فضلاً عن معظم المناطق المحيطة بالخط الساحلي، بمساعدة من القذائف الروسية والقوات البرية المدجّجة بالسلاح، والتي تتألف من مقاتلي «حزب الله»، والحرس الثوري الإيراني، وبحسب قناة «العربية»، من 64 مليشيا شيعية. تعمد وسائل الدعاية السورية حالياً إلى نشر مقاطع فيديو تُظهر سكّان حلب الذين خرجوا عنوةً للاحتفال بإضاءة زينة الميلاد، يرفعون صوراً لبشار الأسد، وبطريقة غير لائقة إلى حد ما أعلام «حزب الله»! فيما لا تزال مئات الجثث ممدّدة في الشوارع في شرق حلب، وفيما لا تزال هناك أعدادٌ لا تُحصى من الجثث العالقة تحت ركام المنازل، وفيما يموت اللاجئون من شدة البرد، هذه الاحتفالات أشبه بالرقص على القبور. لقد أصابت سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، سامانثا باور، تماماً عندما قالت إن البشرية تسير نحو «الانحطاط التام». إنها على حق، لكن لا يمكن إعفاء بلادها من المسؤولية في هذا المجال. بدأ «الانهيار» مع اجتياح العراق بناءً على مزاعم كاذبة، وتدمير ليبيا، وأسلوب أوباما الضعيف والمتردد في التعامل مع المجازر التي تُرتكَب بحق المدنيين السوريين، الأمر الذي سدّد ضربة قوية لمصداقية أمريكا كقوة من أجل الخير. إذا كان دونالد ترامب يريد حقاً أن يجعل أمريكا عظيمة من جديد، فعليه أن يعيد بناء دور الرعاية العالمي الذي كانت الولايات المتحدة تؤدّيه تقليدياً قبل عهد جورج دبليو بوش، والذي تسعى روسيا الآن إلى الاستحواذ عليه بشتّى الطرق. بالطبع، أنا لا أدعو إلى مواجهة عسكرية بين الغرب وروسيا يمكن أن تؤدّي، في أسوأ السيناريوهات، إلى حرب نووية. ثمة أساليب أخرى لردع بوتين ومنعه من مواصلة سياساته العدوانية وتحالفاته المشبوهة مع دول مارقة وكيانات إرهابية. ربما تمكّنت روسيا إلى حد ما من تجاوز مفاعيل العقوبات الأوروبية والأمريكية، غير أن اقتصادها لا يزال هشاً، ويتخبط من أجل الخروج من الركود، على الرغم من حصوله على جرعة زخم بفعل انتخاب ترامب. إذا اصطف الرئيس ترامب إلى جانب نظيره الروسي فسوف يصبح عالمنا مهدّداً، لأن ذلك سيؤدّي إلى امتلاء الخزائن الروسية بالأموال، ما يسهم في تمويل مزيد من العمليات العسكرية الروسية في سوريا وأماكن أخرى. يرى بعض المحللين أن ترامب سيعمد على الأرجح إلى استمالة روسيا بهدف دفعها إلى الانسحاب من تحالفها مع الصين والانضمام إلى صف الولايات المتحدة، لكن من وجهة نظري، بوتين الذي كان رئيساً لجهاز الاستخبارات الروسي (كيه جي بي)، أكثر دهاءً من الانصياع لهذه الخطة؛ سوف يراوغ إلى أن يصبح الوقت مؤاتياً ليسدّد ضربته. ويتوقّع آخرون حتمية حدوث صدام، عاجلاً أو آجلاً، بين الأنا المضخّمة لدى هذين الرجلين القويين. غير أن الانتظار وترقّب ما ستنكشف عنه قواعد اللعبة التي ستتبعها إدارة ترامب سيكون مضيعة للوقت. ينبغي للدول التي تعتبر نفسها أعضاء في العالم المتمدّن أن تتصدّى للممارسات الإجرامية الروسية كي يتوقف بوتين عن التخيل أنه بإمكان روسيا وشركائها المتورّطين في المجازر السورية -إيران و«حزب الله» والمليشيات الشيعية العراقية وسواها- التمتّع بالحصانة التي يؤمّنها حق النقض (الفيتو) الروسي في مجلس الأمن الدولي. يجب قطع كل العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والتجارية مع روسيا وحلفائها في سوريا. تواجه دول مجلس التعاون الخليجي خطر وقوع سوريا في دائرة النفوذ الإيراني، كما حلّ بالعراق ولبنان، ويُخيّم فوق رؤوسها التهديد الذي تشكّله 64 مليشيا شيعية تتمرّس في القتال من خلال مشاركتها في حروب مختلفة على مقربة من حدودها. ينبغي لدول مجلس التعاون الخليجي أن تأخذ زمام المبادرة والتحرّك قبل أن ترص تلك المليشيات صفوفها بدفعٍ من انتصاراتها في ساحات المعارك، وتتزوّد بالسلاح والتجهيزات من جديد بدعم من الثروة التي هبطت حديثاً على إيران (بفضل الاتفاق الذي وقّعه معها الرئيس أوباما). يجب ألا تتردد دول الخليج في المبادرة أولاً إلى قطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا وإيران اللتين تفيدان منّا أكثر مما نُفيد منهما. ثانياً، ينبغي أن نطلق حملة عالمية لإقناع بلدان أخرى بأن تحذو حذونا. أخيراً، يجب أن نقدّم دعماً راسخاً للجيش السوري الحر ومجموعات المعارضة المعتدلة التي تقاتل ضد النظام والتي تعهّدت بعدم الاستسلام قبل تحرير بلادها. الرئيس المنتخب ترامب عملي؛ إنه رجل أعمال يسعى وراء الاستثمارات والوظائف. يسعى وراء المال، وهذه سمات يستطيع مجلس التعاون الخليجي استخدامها لمصلحته من أجل دفع القائد الجديد للعالم الحر إلى الوقوف إلى جانب الحق والعدالة.