بسرعةٍ قياسية لا سابق لها، أنجزتْ حكومة الرئيس سعد الحريري بيانها الوزاري بأقلّ تبايناتٍ ممكنة، وستمْثل امام البرلمان أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس لنيل ثقةٍ، من المتوقّع ان تكون مرموقة وشبه إجماعية في ترجمةٍ للتسوية السياسية الداخلية التي تحظى باحتضانٍ إقليمي ودولي، لا سيما من المملكة العربية السعودية وإيران. وبنيل الحكومة الثقة بين العيديْن (الميلاد ورأس السنة)، يكون اكتمل النصاب الدستوري للسلطة بعد نحو عاميْن ونصف العام من الفراغ الرئاسي الذي انتهى في 31 اكتوبر الماضي بانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وتكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل حكومةِ وفاقٍ وطني اختارتْ عنواناً لها «إعادة الثقة بلبنان». ومن المقرَّر ان يُطلَق العنان مع مطلع السنة الجديدة لحيويةٍ مزدوجة، داخليةٍ عبر برنامج الحكومة التي تسعى الى إحداث صدمة ايجابية من خلال إيلاء الخدمات اهتماماً بارزاً، وخارجيةٍ عبر حركة يتولّاها الرئيسان عون والحريري، وأبرز محطاتها ستكون زيارة رئيس الجمهورية للمملكة العربية السعودية في يناير المقبل. ورغم ان الأسابيع المقبلة ستكون مشرّعة على تجاذباتٍ بين اللاعبين المحليين تتناول الصيغ المقترحة للقانون الذي يفترض بالحكومة إقراره استعداداً لإجراء الانتخابات النيابية في مايو المقبل، فان الدوائر المراقبة في بيروت ما زالت مأخوذة بالانعطافة الايجابية التي يشهدها لبنان عبر انتقاله وبوتيرةٍ سريعة من مرحلةِ انهيارِ آلياتِ الحكم الى مرحلة معاودة انتظام المؤسسات. وتتوقّف تلك الدوائر أمام ما يشبه فكّ الاشتباك الايراني - السعودي حول لبنان والذي أتاح كسْر المأزق الرئاسي - السياسي في ساحةٍ شهدتْ صِداماً إقليمياً متوالياً منذ العام 2005، وهو ما تجلّى في تسويةٍ على طريقة «اللاغالب واللا مغلوب»، اي القاعدة الذهبية التي تحكم التوازنات اللبنانية البالغة الحساسية. وهذا المناخ الايجابي كان حاسماً في الاتفاق على البيان الوزاري للحكومة، والذي لم تستغرق مناقشته أكثر من جلستين للجنة الصياغة التي ترأسها الحريري والتي نجحتْ في تجنُّب أيّ أفخاخ، خصوصاً في المسائل الحساسة كالموقف من مقاومة «حزب الله» او المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وقد «نَفَذَتْ» الحكومة في ما خص العناوين الإشكالية الاربعة في البيان الوزاري (جاء في 8 صفحات فولسكاب) من «هيكليْن» اتّكأتْ عليهما: خطاب القسَم لرئيس الجمهورية والبيان السابق لحكومة الرئيس تمام سلام. ورغم ما المرور السلس والسهل لهذا البيان، فإنه قوبل بتحفُّظ وحيد من وزراء «القوات اللبنانية» على البند المتعلّق بـ «حق المواطنين اللبنانيين في المقاومة للاحتلال الإسرائيلي وردّ اعتداءاته واسترجاع الأراضي المحتلة»، وهي الصيغة المستعادة من بيان حكومة سلام، والتي دعت «القوات» الى استبدالها بـ «حق الدولة اللبنانية» وإلا كانت الحكومة تُشرّع الفوضى وتَفتح الوضعَ اللبناني على المجهول وتتجاهل تماماً وجودَ الدولة اللبنانية. وباستثناء هذه النقطة، فإن سائر البنود التي أُقرّت بدت متوازنة، ومنها بند «ضرورة ابتعاد لبنان عن الصراعات الخارجية، ملتزمين احترام ميثاق جامعة الدول العربية لا سيما المادة 8 منه (احترام نظام الحكم القائم فى دول الجامعة الأخرى والتعهد بعدم القيام بعمل يرمى الى تغيير ذلك النظام فيه) مع اعتماد سياسة خارجية مستقلة»، والإشارة الى الجيش والقوى الأمنية فقط في معرض الكلام عن «عملها الردعي والاستباقي في مواجهة الإرهاب» ودورها في «حماية الدولة والشعب والأرض من الحرائق المنتشرة حولنا». كما برزت الفقرة ذات الصلة بتعزيز علاقات لبنان مع الدول الشقيقة والصديقة و«الالتزام بالمواثيق والقرارات الدولية كافة بما فيها قرار مجلس الأمن 1701». واعتُبر عدم اعتراض «حزب الله» على هذه الفقرة بمثابة تسليم ضمني باستمرار عمل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي تحاكم اربعة منه في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وفي حين حدد البيان اولويات الحكومة من مشروع الموازنة والاوضاع الاقتصادية ومعالجة أوضاع النازحين وحماية القضاء، فهو قارب الملف الأهمّ أمام الحكومة والعهد الجديد، وهو قانون الانتخاب، من زاوية تأكيد العمل بالتعاون مع مجلس النواب لإقرار قانون جديد. وفي هذا السياق، لا يُستبعد ان ينسحب «النفَس» التسهيلي الذي يلفّ المشهد السياسي على مسار العمل على قانون الانتخاب الجديد. وقد اعتبرتْ مصادر سياسية في بيروت انه رغم الكلام العالي السقف لرئيس «التيار الوطني الحر» (حزب رئيس الجمهورية) الوزير جبران باسيل (صهر عون) من قانون الانتخاب، سواء بالنسبة الى القانون الارثوذكسي (كل طائفة تنتخب نوابها) او خفض عدد المقاعد النيابية الى ما كان نص عليه الطائف اي 108 نواب بدل 128 حالياً، فإن جوهر موقف باسيل يعبّر عن رفض الإبقاء على قانون الستين الحالي وعن رغبة في نقل بعض المقاعد المسيحية التي تقع ضمن مناطق ذات غالبية كبيرة مسلمة (مثل مقعد طرابلس) الى دوائر يطغى عليها الناخبون المسيحيون. وفي رأي هذه الاوساط، فإن التوافق على قانون انتخاب رغم «الصوت العالي» من النائب وليد جنبلاط مثلاً ضدّ النسبية الكاملة ورفْض «حزب الله» والرئيس بري المطلق لقانون الستين والدعوة الى نسبيةٍ كاملة مع الانفتاح على صيغة القانون المختلط (اقتراع أكثري ونسبي)، يُبقي الباب مفتوحاً أمام إمكان التفاهم على صيغة ترضي الجميع و«تنقذ» ايضاً غالبية مَن التزموا برفض التمديد للبرلمان للمرة الثالثة وتعهدوا بوضع قانون جديد، مذكّرة في هذا السياق بأن الرئيس عون الذي جعل هذا القانون أولوية حتى على انتخابه رئيساً لا يمكنه في بداية عهده السماح بانتكاسة العودة الى القانون الحالي.