نعم كل شيء من حولنا في إطار العلاقات الدولية، والتفاعلات الجيوسياسية، هو نتائج وأحداث في داخلها نسق معين، على الرغم من الفوضى الظاهرية التي تبدو عليها، سمّها نظرية المؤامرة إذا استطعت أن تنظر بالعين الثاقبة، أو مجرد أحداث تكوَّنت بالصدفة إذا لم تقتنع، وعلى الرغم من المشككين الكثر، فإن نظرة متفحصة واحدة على التاريخ تستطيع من خلالها أن تفهم أنه لا يوجد صدف، إلا ما ندر. الداروينية: هي النظرية التي كتبها تشارلز داروين عام 1882، والتي حاول من خلالها شرح نظرية التطور للنبات والحيوان وحتى الإنسان. لا تهمنا هذه النظرية بحد ذاتها، بقدر ما تهمنا الظلال التي ألقتها على مفهوم "التطور العِرقي"، التي فسَّر فيها داروين اختلاف الشعوب على أساس بيولوجي، والذي كان له أشد الأثر على المفهوم الغربي العام، في قولبة نظرته لشعوب المنطقة، والذي دفع بالكثيرين من المفكرين الغربيين من بعدها، للإقرار بنظرية التفوق العرقي، أي أن الأشخاص يختلفون عن بعضهم البعض حسب العِرق، وأصوله، وجذوره، سواء من الناحية الجسدية أو الفكرية، وهذه يقودنا إلى المصطلح الآخر. الاستشراق: الاستشراق والشرق مفهومان مختلفان كلياً، ولا يوجد أبلغ من المفكر إدوارد سعيد، استطاع شرح ربط هذين المصطلحين، حسب كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، (فالشرق هو المكان الجغرافي، بينما الاستشراق هو المفهوم الذي حاول الغرب تجسيده عن الشرق، وهو مفهوم مرتبط بالاستعمار، والذي حاول فهم المنطقة، من خلال اختزالها في هذا العلم؛ لمحاولة تسهيل السيطرة عليها)، فبينما الشرق نسبي والغرب نسبي أيضاً، وهي أصلاً ليست منطقة أو مكاناً، وكله يعتمد من أين تنظر إلى كل اتجاه، فطبيعة التسمية إذاً تدل على وجهة نظر الغرب لمنطقتنا، بحكم اللون والعِرق، والتي طبعاً لم تكن محايدة، وبالنسبة للنظرة الغربية، كل ما هو موجود في العالم، هو شرق، ما عدا الغرب - إذا استطعنا طبعاً استخدام لفظ غرب هنا بنفس السياق- ولذلك نرى أن العالم بالنسبة للغرب، مقسم إلى أنواع مختلفة من الشرق، فنرى الشرق الأوسط والشرق الأدنى والشرق الأقصى، بينما الغرب هو واحد ووحيد، بكل ما تحمله العبارة من تفوق مكاني ولغوي في الأذهان أيضا. وهنا يرتبط المصطلحان، مما يعيدنا إلى مفهوم التطور العرقي، فمعظم الدراسات الاستشراقية أشارت إلى تخلف الشرق، ومن ضمنه المنطقة العربية والإسلامية؛ لأنها حسب وجهة نظرها، تضطلع بصفة الجمود، والسلبية الناجمة عن الدين، والتي تدفع إلى التفكير الغيبي والإيمان بالقدرية، دون تدخل حقيقي في توجيه الأمور، وفهمها بشكل علمي وموضوعي. وفي المقابل، أظهرت صورة الحضارة الغربية، الممتلئة بالنشاط والحركة الدائمة، والسعي المستمر لرفع كل المستويات، والتطور في مختلف الحقول العلمية، ومن خلال هذه الفكرة، تطور هذا العلم في الإطار التاريخي لأعوام طويلة، وتشويه صورة شعوب ومناطق ليس لهدف، سوى للسيطرة عليها من جهة، وتقديم صورة سطحية حسية جذابة لها، كانت مطلوبة في الغرب حينها، منها ما يتعارض أصلاً مع الحقائق، مثل كتاب تاريخ الشعوب الإسلامية للمستشرق الألماني كارل بروكلمان، وكتاب تاريخ الأدب العربي لنفس المؤلف، وتوظيف قصص، مثل ألف ليلة وليلة، والسندباد، وما لعبته مفردات مثل المحظيات، والجواري، والسبايا، وقصر الحريم، وغيرها، التي يغلب عليها الطابع السطحي والجنسي، ليس لهدف أيضاً سوى لإضافة بعد البدائية والسطحية والانغماس بالجنس لهذه المجتمعات. الشرق من وجهة نظر غربية لعب دوراً جنسياً كبيراً في مخيلة الكتاب والمستشرقين الأوائل، والذي بدأ بالشرقي التركي، خاصة بعد سقوط القسطنطينية، آخر معاقل الإمبراطورية الرومانية في الشرق، وما مثله من تمريغ لأنف الغرب، وبالتالي حاولوا إصباغه بصبغة دونية تحقيرية، منشغلة بالجنس والمتع، ونرى ذلك بوضوح في روايات المستشرقين، أمثال فلوبير وجي دو موباسان، ولا يوجد رد على ذلك أبلغ مما كتبه المؤلف الأميركي فوكو، حول هوس الغربيين بالحديث عن الجنس لتثبيت هذه الفكرة. ربما بدأت هذه الصورة -حسب بعض المؤرخين- بأخذ الطابع المنسق، خلال حملة نابليون بونابرت على مصر، وبما جلبه من طابعات، حاول من خلالها الكتابة عن هذا الشرق "الآسر"، بمضمونه وكينونته، وعكسه إلى الغرب، بما يتلاءم مع الصورة المتخيلة عنه من جهة، وبما يلائم الأطماع الاستعمارية من جهة أخرى. لقد كانت وما زالت الأطماع في ثروات الشرق هي المحرك لهذا العلم وهذه التصورات، منذ الحملات الهولندية والبرتغالية المسماة بالاستكشافية، لتلطيف مفهوم نهب ثروات الدول الفقيرة والضعيفة، حتى إن الغرب نسي أنه كان "شرق"، جغرافياً، حسب مفهومه في يوم من الأيام، إذا أدخلنا التطهير العرقي لهنود أميركا الشمالية، وقتل الملايين منهم في الخارطة، إلى الحملات البريطانية في الهند، وشرق آسيا، والصين، بتسمية أخرى (شركة الهند الشرقية)، ووضع أكثر من نصف الشعب الصيني تحت رحمة الإدمان، خلال حرب الأفيون الأولى والثانية، حتى يتسنى السيطرة عليه، والاحتلال الفرنسي والإيطالي لمعظم المغرب العربي، من المغرب حتى ليبيا، إلى الاحتلال الأميركي لهاواي، وإسقاط القنبلة النووية على اليابان، في هيروشيما وناغازاكي، وتدخلاتها في بنما والهندوراس، وكوبا، ولاوس، وكوريا، وغواتيمالا، وفيتنام، ودعم الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، حتى أفغانستان والعراق، التي وصل بعض المؤرخين إلى أن نتائج هذه الحروب والتدخلات والمذابح مجتمعة، وصلت إلى أكثر من 150 مليون إنسان، 95% منهم من هذه الدول الفقيرة، المحتلة، المستعمرة، من المكان المسمى بالشرق، وليس العرق الأبيض. الآن، وبعد كل هذا التطور الزماني والمكاني، ما زال الاستشراق يستخدم لخدمة نفس الأفكار، ونفس السيد، وهو الغرب، مثلاً العداء الذي ظهر فجأة للعرب والمسلمين وبشكل واضح بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، سواء على مستوى المفكرين الموجهين للرأي العام، أو عامة الناس الممتلئين بالحقد والكراهية لشعوب ودين، لا يعرفون عنه أي شيء، سوى صورة نمطية قدمت لهم من خلال رواية الاستشراق المزيفة من جهة، والتزييف للحقائق من قِبل أجهزة الإعلام الرسمية وغير الرسمية، غير ملاحظين أن معظم هذه الحركات الراديكالية، والأصولية، هي من صنع أجهزة الاستخبارات الأميركية، ومن قبلها الإنكليزية والفرنسية، غير واعية أن القوى الغربية تستخدم الحيل المختلفة، للإبقاء بقبضتها مشدودة على الشرق، وعلى مصالحها المختلفة، غير مبالية إلا بما ينتج من صراعات وقتل وتدمير للشرق، ما دام الغرب سليماً، غير مدركين أصلاً أن كلمة (أصولية) كفكر وكتسمية ظهرت في الغرب أولاً، وتحديداً عند الجماعات البروتستانتية المسيحية في أوائل القرن العشرين في الولايات المتحدة. ففي السبعينات تنازل الرئيس الأميركي نيكسون عن العداء للاشتراكية فجأة، خلال فترة الحرب الباردة، وتقارب مع الصين للخروج من الأزمة التي كانت تعانيها أميركا في فيتنام، من خلال الصلح الذي كان هنري كيسنجر مهندسه في تلك الفترة. في الثمانينات في أفغانستان قامت الولايات المتحدة بدعم الفكر الجهادي، حتى في مناهج المدارس، حتى تقوم بمحاولة دعم الجهاديين ضد الوجود السوفييتي هناك. في التسعينات خلال حرب الخليج، قامت الطائرات الأميركية بإسقاط مئات آلاف من المنشورات تحرض الناس على إسقاط صدام حسين، الطاغية، بنظرهم، وضرورة تخليصهم من الأنظمة الاستبدادية. محور الشر في خطاب جورج بوش الابن، هو مرادفات للغرب والشرق، حيلة حق تقرير المصير وتخليص الشعوب من الأنظمة الاستبدادية حجج أخرى، للتدخل في أرجاء العالم (الشرقي المتخلف)، الذي لا يستطيع النهوض، والآن، تحول الغرب من التدخل المباشر إلى التحكم من خلال الأنظمة الراديكالية، ليس سوى تكتيك جديد، تنتهجه هذه الدول، بما يلائم مصالحها. النظريات الغربية الحديثة، مثل نظرية فرانسيس فوكوياما (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، ونظرية أستاذه صامويل هنتنغتون (صدام الحضارات)، حاولت إظهار أن هذه الحالة هي صراع ثقافي بين الأمم والأعراق، وأن الليبرالية الغربية المزعومة هي نهاية التاريخ، وذلك لتغليف مفهوم سيطرة الغرب على الشرق بمفهوم الصراع المتماثل، بين مختلف الأطراف، هو ليس صراع بين أطراف متماثلة في القوة، إنها عملية سيطرة فوقية، عرقية، على المصالح، وهذه السيطرة تستخدم مفردات أيضاً مثل الدين، والصراع الطائفي لزيادة السيطرة. وبينما الأنظمة الاستبدادية الأخرى الأكثر تخلفاً، تسيَّر مباشرة من قِبل الرجل الأبيض، وللأسف، لا يوجد في الشرق حتى الآن خطاب حقيقي ديني أو ثقافي أو تقدمي استطاع مواجهة هذا الاستشراق بالطريقة الملائمة. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.