تماماً كأي دولة كبيرة أخرى، تحفل الولايات المتّحدة بالانقسامات السياسيّة العميقة، لا سيّما تلك الناجمة عن الجغرافيا، والطبقات الاجتماعيّة، والعمر، ومستويات التحصيل العلمي. ومنذ المواجهة بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، تبرز بصورة متزايدة انقسامات ناتجة من المسائل الجندرية، مع أنّه لم يتحدّد بعد بالشكل المناسب إلى أيّ مدى كان الاعتراض على كلينتون، العفوي في أغلب الأحيان، موجّهاً ضدّ هيلاري بحدّ ذاتها أو ضدّ آل كلينتون عموماً. وبما أنّني لا ألتقي مناصري ترامب إلاّ لِماماً، يصعبُ عليّ تشكيل رأي حول الموضوع. بيد أنّ قلّة الرجال العاملين الذين طرحتُ عليهم أسئلة عنه أطلعوني عن وجهة نظر مريعة، حول شخص أكّد لهم، من خلال تغريداته عبر «تويتر»، أنّه شرّير بما فيه الكفاية ليدير ماخور العاصمة واشنطن المتخفّي تحت غطاء ردهة مطعم بيتزا. الآن، ظهر انقسام جديد طغى على كل الانقسامات العميقة السابقة بين الأميركيين، ويتّسم حاليّاً بطابعه العنيف، ويتعلّق بترامب الرجل بحد ذاته، وبشخصيّته، وبسياساته، وبكرهه الواضح للنساء، وبنظرته إلى العالم. وعلى ما يبدو، يراه البعض كما يريدونه أو يتوقعونه أن يكون، بغضّ النظر عن كل أخطائه. أمّا البعض الآخر، فيمثّل ترامب بنظره لغزاً مثيراً للقلق، أحاول فكّ رموزه باستمرار، شأني شأن ملايين الأميركيين. في هذا السياق، سأبدأ بالأسلوب السياسي غير المعهود الذي بدأ يعتمده ترامب، وقد تجلّى للعيان خلال هذه الفترة القصيرة التي تفصلنا عن تنصيبه كالرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة في 20 كانون الثاني (يناير) المقبل. وفي الوقت الراهن، تطغى على أسلوبه هذا شخصيّته الحازمة العدوانيّة الترهيبيّة التي لا تراعي مشاعر أيّ كان، فلا يشبه أي مرشح جمهوري سابق ورد اسمه في التاريخ، حتّى تعلّمنا أن نقول إنّ «ترامب يتصرّف كترامب». وكذلك، يعتمد ترامب مبدأ مشاركة أفكاره الخاصة بصيغة غير منقّحة نسبيّاً، من خلال تغريداته القصيرة التي تكاد تتوارد على مدار الساعة، من دون أن يأبه ظاهريّاً للحقائق الفعليّة على أرض الواقع، وكأنه يقول: أهلاً بكم في عالم أصدقائي وأعدائي، حيث المشاعر أهم من الوقائع أو من الاهتمامات المادّية الثابتة والراسخة، وحيث سحر الكلام قادر على إيجاد حلّ للشكاوى الواردة. كذلك، لا بدّ من ذكر سياسات ترامب الفعليّة التي صاغ خطوطها العريضة بنفسه، ويبقى تنفيذها من مسؤوليّة فريق من مناصريه، بدأت معالمهم تتكوّن شيئاً فشيئاً. والملفت أنّ قلّة من هؤلاء فقط، باستثناء حاكم ولاية أو اثنين - بينهم مايك بنس نائب الرئيس المنتخب، لا تملك أي خبرة مباشرة في السياسة. بيد أنّ عدداً منهم، لا سيما ممن يملكون خلفية عسكرية، يتمتعون بالمهارات الضرورية لإدارة بيروقراطيات كبيرة والتعامل مع لجان الكونغرس الرئيسية المعنية بالإشراف على المستوى الفيديرالي. وبالنسبة إلى السياسات الدقيقة، يخشى معظم الناس حتى الساعة من أن تكون موجّهة نحو تحقيق هواية ممتعة اعترف بها ترامب شخصياً، تقضي بالقيام بأمور غير متوقّعة، على غرار تلهّفه للقضاء على «داعش» فوراً. لكن متى كان الأمر على صلة برصد أكبر التهديدات التي تواجه الأمن القومي الأميركي والتصدّي لها، لا يمكننا التأكّد ممّا سيفعله. فعلى رغم وجود توافق عام على الحاجة إلى إنفاق مزيد من المال على الجيش، لم يتّضح كيف ستُقسَّم هذه الأموال بين مختلف الدوائر، وما هي التهديدات الأكثر خطورةً، وبالأخص، ما هي السياسات الواجب اعتمادها حيال روسيا التي وُلِدت من جديد، والصين التي برز نجمها، ويشمل ذلك سؤالاً عويصاً طرحه ترامب بنفسه، حول المبالغ التي يجب أن تدفعها أوروبا ودول الشرق الأقصى المطلة على المحيط الهادئ للدفاع عن نفسها. وفي مواجهة ذلك، نرى أنّ آراء ترامب عن الخطر الذي تمثّله الحرب الإلكترونيّة العالمية تضعه في خانة الذين يؤمنون، بعكس عدد كبير من الجنرالات، بأنّه لا بدّ من وضع هذه المسألة في طليعة الأولويات خلال السنوات المقبلة. أما في ما يتعلّق بمنطقة الشرق الأوسط التي لا يعرف عنها ترامب شخصياً إلا القليل، سنأمل بأن يوفّر العناصر العسكريّون في حكومته توجيهات سليمة حيال الخطر الذي قد ينجم إن تمّ العبث بالاتفاق النووي الإيراني. وما داموا بعيدين نسبياً عن الاهتمامات الصهيونية، قد يقاومون الضغوط المستمرّة التي يمارسها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. مع أنّ في الأمر بعض الغرابة، تُعدّ آراء دونالد ترامب عن السياسات المحلية أقرب إلى آراء هيلاري كلينتون مما يفترضه الأميركيون. فعلى سبيل المثال، يؤمِن كلاهما باستحداث فرص عمل جديدة من خلال إحداث زيادة كبيرة في حجم الإنفاق العام المحلي، في برنامج سيؤدي حتماً إلى عودة التضخّم، ترافقه زيادة، ولو صغيرة، في معدلات الفائدة. واليوم، لا عجب أن يكون المجتمع المالي الأميركي مراهناً جداً على الارتفاع، مع تزايد أسعار الأسهم يومياً في بورصة نيويورك، وكذلك في أماكن أخرى، بدعم طبعاً من وعد ترامب بخفض معدلات الضرائب المفروضة على الميسورين مادّياً. ويرى من تبقّى في الولايات المتحدة أنّها مرحلة قصيرة من الانتظار والترقب ليعرفوا ما سيحصل، وفي أحيان كثيرة، تكون مرحلة كهذه حافلة بالألعاب السياسية المبدعة، إنما التافهة في النهاية، على غرار إرسال هدايا باسم مناصرين معروفين لترامب لمؤسسات من الواضح أنّها تعارضه، على غرار مؤسسة «السود ضد عنف الشرطة»، أو التعامل مع مسألة الاطّلاع المستمر على هويّات عابري المدخل الذهبي لبرج ترامب في نيويورك ذهاباً وإياباً، على أنّها من المسلسلات التلفزيونية الطويلة حول المشاهير، وعدم التوقف عن ذلك إلا عند ظهور نسخة أخرى عن العرض نفسه، إذ ترسي أسرة ترامب رحالها في البيت الأبيض الراقي، وإن كان أقل بذخاً بكثير من برج ترامب. * أكاديمي بريطاني - جامعة هارفارد