من المرتكزات التي استندت عليها أطروحة كتاب (الحضارات في السياسة العالمية)، تأليف مجموعة من الأكاديميين الأمريكيين، التخلي عن فكرة الحضارة بصيغة المفرد، ونقد هذه الفكرة وذمها، وتبني فكرة الحضارات بصيغة الجمع، واستحسان هذه الفكرة ومدحها. والحكمة من ذلك، في رؤية أصحاب هذه الأطروحة، هي تجنب البحث عن معيار حضاري كلي وتراتبي تتمثله وتعبر عنه حضارة معينة، ويكون حاكما ومهيمنا على باقي الحضارات الأخرى، وعوضا عن ذلك البحث عن معايير حضارية جمعية وتعددية، تتمثلها وتعبر عنها حضارات عدة، لا حضارة أحادية. ويترتب على هذا الموقف، نبذ ذهنية التعالي والفوقية، وسلوكيات التحكم والهيمنة التي تبررها وتشرع لها أحادية الحضارة، من خلال تقسيم المجتمعات والعالم، إلى ثنائية: متحضرون وغير متحضرين، وبين من ينتمون إلى عالم الحضارة، ومن ينتمون إلى عالم يقع خارج الحضارة. وهي الفكرة التي تحكمت في الثقافة الأوروبية، وأنتجت تاريخا مدمرا وبغيضا من الغزو والاحتلال، ومن الاستعمار والإمبريالية، الذي صب على الشعوب المستعمرة عذابا وجحيما، ومثل لها، وبقي يمثل لها على طول الخط، ذاكرة من التاريخ الأسود. وعن هذا المرتكز وهذه الرؤية، أوضح محرر الكتاب كاتزنشتاين أن هذا الكتاب ليس عن حضارة متصورة في حالة المفرد، وبوصفها تمل برنامجا ثقافيا متماسكا، جرى تنظيمه بطريقة تراتبية حول نواة قيم لا خلاف عليها. ومن الناحية التاريخية، يرى كاتزنشتاين أن مفهوم الحضارة بالمفرد، كان اختراعا أوروبيا ينتمي إلى القرن الثامن عشر، واعتبر أن هذا المفهوم وفر أساسا لنقاش عن معيار حضاري عد معبرا عن حالة، لا عن سيرورة، وما لبث أن تكرس في قانون أمم متحضرة، كان من نتائجه اعتبار أن الأوروبيين البيض هم المتحضرون، أما الآخرون فهم غير متحضرين، الأمر الذي ترتب عليه اعتبار أن هؤلاء غير المتحضرين ليسوا جديرين بنيل حماية القانون، وجعلهم عرضة لأعمال العنف الجماعي، التي صدرت من الإمبرياليين الأوروبيين ــ حسب وصف كاتزنشتاين. هذا من جهة نقد فكرة الحضارة وذمها بصيغة المفرد، أما من جهة فكرة الحضارات ومدجها، فيرى كاتزنشتاين أن ثمة عالم حضارات جمعية متجذر، وغير قابل لأن يتحدد في معيار واحد، يكون معبرا عن تراتبية أخلاقية صارمة، وفصول هذا الكتاب التي تجمع وتحلل عددا من التجارب الحضارية في أمريكا وأوروبا والصين واليابان والهند وفي عالم الإسلام، توفر ــ حسب قول كاتزنشتاين ــ تأييدا قويا لمثل هذه النظرة الجمعية والتعددية إلى عالم الحضارات. ومن ناحية التقييم، فإن هذا التحول من فكرة الحضارة إلى فكرة الحضارات، بما يعني التخلي عن نزعة التراتبية والفوقية، يعد أحد مداخل البحث عن العلاقات بين الحضارات، ويحفز على حالة التواصل والانفتاح بين هذه الحضارات، التي ترفض بطبعها الإلغاء والإقصاء بأشكاله كافة، ومن هنا تكمن أهمية هذه الأطروحة.