×
محافظة الرياض

الانتهاء من دراسة إصدار «الجواز الإلكتروني» قريبا

صورة الخبر

جاءنا البشير يبشرنا أن ها هنا خلية ملقحة تشق طريقها نحو إثبات وجودها في الحياة، وعلينا انتظار نبضها الأول بعد عدة أسابيع، فقضينا الليالي المتبقية في الدعاء وسؤال الله أن يُتم ما بدأ على خير. لا أستطيع نسيان تلك الليلة، وما امتلأت به من فرح وسرور، لا أنسى قالب الكعكة الصغير الذي اشتراه والداك احتفالاً بوجودك داخلي، عندما ضمني إليه بقوة والدموع التي امتلأت بها عيناي ونبضات قلبينا وهي تتسارع من السعادة، حالة الذهول التي اعترتنا لفترة.. فأنت موجود حقاً وفعلاً كما أكد لنا الطبيب، الأحلام التي بدأت في التسرّب إلى فراشنا، فبعد تسعة أشهر ستكون ها هنا تتوسط الفراغ بيني وبين والدك، قد يصعب علينا التأقلم مع الوضع الجديد بسهولة، ولكن بسبب غريزة ما أودعها الله داخلنا -لا نعرف لها تفسيراً- سنكون سعداء للغاية. لم يكن الأمر سهلاً بالمرة في بدايته، فيبدو أنني من هؤلاء النسوة ذوات الجسد الضعيف اللواتي لا يمر عليهن الحمل بخير واستقرار دون القلق من خطر الإجهاض، عشنا حالة من التوتر لفترة طويلة إلى أن شاهدناك قد أحكمت التصاقك بجدار رحمي بشكل صحيح وسليم، فهدأت النفس حينها واطمأن القلب وانتهى القلق. من الغريب يا ابني العزيز أنه على الرغم من لهفتي وتصميمي على وجودك وحضورك في هذه الحياة فإنه لن يحق لي أن أختار ثيابك وأصدقاءك وحبيبتك وحتى مسار دراستك، ربما سأرشدك، سأساعدك، سأنصحك، ولكنك في النهاية قد خُلقت حراً، ومن الخطأ أن أسلب منك حريتك، حقيقة أتعجب من أمي كيف بعد كل ما عانته في حملها بي أن تركتني أختار كليتي، وجامعتي، وأصدقائي، وعملي، وزملائي، والكتب التي أقرأها، والموسيقى التي أسمعها، والزوج الذي تزوجته، قد لا تكون راضية عن كل شيء، ولكنها كانت مؤمنة أنها لا تستطيع سلب إرادتي مني، الأم حقاً كائن غريب يا بُني.. تتلهف لأن تمتلك طفلها بين يديها، ثم تُطلقه كالطير الحر بلا قيود في الحياة؛ لتترك له سبيل اختيار دربه بنفسه، لا أدري كيف سأستطيع أن أوازن بين الأمرين معاً. الآن بدأ الجزء الأكثر صعوبة.. كامرأة لستُ جاهلة حقاً بما سيحدث لي أعلم أنني سأتغير بالكليّة، أحياناً أشعر أن حتى علاقتي بوالدك ستتغير كثيراً، فنحن سنصبح ثلاثة وليس مجرد شابين حديثي الزواج يعيشان حياتهما بحرية، سيتغير شكلي، واهتماماتي، ووقتي الذي لن يكون مليئاً إلا بك، ومن المربك أن كل شيء بدأ مبكراً، بسرعة.. فقدت كل معنى للحياة، اضررت إلى التخلي عن فنجان قهوتي الصباحي، إذا ما حاولت أن أقرأ في غير الاهتمام بك يصيبني الدوار والصداع، لا أستطيع الكتابة إلا عنك وعن يوميات تكوينك، لم أعد أركز في أي شيء سواك، حتى هوايتي المفضلة في صنع الحلويات والتفنن في صنع معكرونات جديدة يحبها والدك صار محظوراً عليَّ، إذا ما قمت بعمل أي شيء سوى التركيز في نموك تبدأ بالثوران والهيجان وتنذرني بأن عاصفة من الغثيان ستجتاح معدتي، فأتوقف فوراً وأعود إلى أريكتي المفضلة لأستلقي عليها وأترك جسمي ينشغل في تكوينك. لا شيء يهوّن عليَّ ما يحدث لي سوى رؤيتك في جهاز السونار، نطفة صغيرة لا ملامح ولا شكل لها، وجزء صغير جدا يتحرك دالاً على أنك حي وتمتلك قلباً صغيراً ينبض، في أول مرة أسمعنا الطبيب صوته بكيت. حسناً يا صغيري.. أنتَ الآن داخلي محاط بقلبي ورعايتي، تأخذ أهم ما في جسدي من فوائد، تبث الغدد هرموناتها المقيتة التي تجعلني طوال الوقت عصبية ومتضايقة وكل جزء في جسدي يؤلمني، ولا أحد يتحمل كل ما يصدر مني سوى والدك.. فأوصيك به حتى وإن ضايقك في المستقبل.. فأرجو أن تبقى على عهد البر به، فنحن سنخطئ كثيراً وسنرتكب الكثير من الحماقات معك، ولكن تأكد أننا نحاول طوال الوقت أن نكون أبوين مثاليين، فاغفر لنا خطأنا والزم برَّنا. عزيزي الصغير.. وأنت ما زلت نطفة لا تُذكر كنت تصيبني بهيستيريا بكاء كل ليلة، أحياناً كنت أستيقظ من النوم لأبكي.. فأنا لا أدري حقاً ما يحدث لي! اكتئاب شنيع يغمرني.. ولا أحد حولي ليساعدني. أفتقد بشدة أمي، ولكنها ليست موجودة، حسناً يا بُني يبدو أنني لم أنضج بعد ويبدو أنني سأنضج على يديك. فكأنك تقول لي: "صباح الخير يا أمي"، قبل أن أبدأ أي نشاط في الحياة تُصيبني بالغثيان والقيء، ويبدو من أحاديث الجميع أنه أمر طبيعي، وأخبرتني الطبيبة أنه دليل على نموك وتكونك بشكل مثالي. أعلم يا عزيزي أنك تحاول إثبات وجودك، تذكرني كل صباح بأنك موجود داخلي، وأحياناً يتكرر الأمر على مدار اليوم، "مرحباً ماما أنا هنا".. حسناً أعلم أنك هنا هلّا هدأت قليلاً وتركت يومي يمر بسلام؟ ولكنك عنيد جداً.. أمك عنيدة وأبوك أشد عناداً منها.. لا أظنك ستكون طفلاً سهلاً أبداً. هل هي طريقة التواصل ما بيننا؟! ألم يكن جديراً بأن تكون طريقة أكثر رقة؟! ورغم كل ذلك فلقد ألهمتني أعظم شعور يمكن لأي إنسان أن يخالجه، فأنتَ المعجزة الخاصة بي، وأنت الغريزة التي وُلدتُ بها، والوظيفة التي ستمنحني ممارستها وهي الأقرب والأحب إلى الله. بعد كل زيارة بائسة للحمام أفرغ فيها ما في معدتي أعود مبتسمة لأربت على بطني، وأقول لك: "صباح الخير يا ولدي.. أتمنى أن تكون بخير وسعيداً بالمكوث داخل أحشائي لفترة من الزمن.. إقامة سعيدة وهانئة". أتمنى أن تصير الأيام القادمة أفضل. وأعلم أنك عندما تقرأ ما أكتبه فأنا لا أقصد تأنيب ضميرك، ولكنني أحاول أن أصرخ فقط، ففي جميع الأحوال سيأتي يوم لتتزوج وتشعر بما أشعر به، إذا ما كنتِ فتاة أو فتى.. الرجال أيضاً يعانون، فهم أسرى هرمونات زوجاتهم وتقلباتها، ومشاركون أساسيون في كل ما يحدث، فهم أيضاً يحتاجون إلى الصراخ أحياناً. ابني العزيز.. ما أخبارك اليوم؟ متشوقة لرؤيتك في السونار القادم ورؤية كم كبرت ونموت.. أتمنى لك رحلة سعيدة ودفئاً جميلاً داخل أحشائي اللي احتللتها على رضا مني وسعادة. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.