النسخة: الورقية - سعودي في مكتب أحد الموسرين دخلت امرأة مسنة، عرّفت نفسها بالاسم الثلاثي، وقالت للرجل الثلاثيني خلف المكتب والحروف لا تكاد تسعفها من شدة الحياء والارتباك: «مريت المحاسب وما عطاني العادة السنوية اللي كان أبوكم جعله في جنات النعيم ممشيها لي، يقول انك طال عمرك وقفتها، وتخبر يا وليدي البير وغطاه». تململ الشاب الوريث قليلاً، وقال وهو يبدي انشغالاً مفتعلاً: «انتي منتي محتاجة، انتي ساكنة في بيت ملك!». أطرقت المرأة قليلاً كأنما تستجمع ما تبعثر من كبريائها، كأنما ندمت على شرخ تعففها أمام هذا القاسي، أو لعلها تستجمع أفكارها، رفعت رأسها وقالت بما يشبه الهمس وكأن حبالها الصوتية تبكي بصمت: «يا وليدي الجدران ما تأكل خبز» واستدارت ولم تزد. لسان حالها يحكي أنها كادت تتعثر من شدة الحزن، جرجرت عباءتها التي بدت كجزء من تاريخها، وعلامة على حاجتها، و«كود» تعرف منه النساء أكثر من الرجال أنها لم تتغير منذ عقود. لو ترجمت أفكارها وهواجسها وهي تقف في «ظهيرة لا مشاة لها» لكانت رواية يعيشها كثيرون وكثيرات يسكنون بيوتاً هي كل ما يملكون، غالباً هي في الأحياء القديمة صغيرة المساحة، هي عنوان تعففهم، وغالباً هي ميراث أب عن جد، زوجة عن زوج أو العكس، سعوديين وسعوديات درج الموسرون ممن عرفوهم طويلاً على ستر حاجاتهم عبر ما يعرف بـ«العادة»، وهي عرف سعودي قديم يقوم فيه الموسرون بمنح المحتاجين مبلغاً سنوياً أو شهرياً. روايتها كانت ستقول في مئات الصفحات ما اختصرته في جملتها عن جدرانها، ما حسبه الموسر جدراناً من الشوكولا تقتطع منها كلما جاعت. تحديد مستوى الحاجة بات صعباً في هذا الزمن، لا يمكنك إطلاق وصف الفقير على موظف نظرياً، لكن الواقع المعاش يجعلك تفعل، وتعتمد الحكاية على تقدير الأشخاص، أو الجهات المانحة للزكاة والصدقة والعادات والمساعدات غير المجدولة. بمقاييس الوريث أعلاه، هل يمكن قطع الصدقة أو العادة عن رجل لأنه يملك سيارة؟ والإجابة بالتأكيد لا، ففي بلد لا يوجد فيها مواصلات عامة بسعر منخفض تكون السيارة أهم من الغذاء أحياناً. هل يمكن اعتبار من لديه هاتف نقال غير محتاج؟ لا قطعاً، فبعض الهواتف مع شحنها تكلف أقل من قيمة ثوب جاهز مصنوع في الصين، والمواطن بل وربما المقيم أصبح لا يستطيع العيش من دون هاتف والحكومة والمؤسسات المالية وغيرها تتعامل من خلاله معه في عمليات التواصل والتحقق. نمط العيش ومستوى المعيشة العام يضغطان على كثيرين، ولست أتحدث عمن يمدون أرجلهم أكثر أو أكبر من لحافهم، ولكنني أعني من لا لحاف لهم من الأساس. نعرف أن الحكومة تعطي، وأهل الخير كثيرون، لكن من جماليات المجتمع التي وجدتها في الرياض، وأحسبها في مناطق كثر، أن الرعيل الأول حافظ على عادات عميقة المغزى، أتمنى ألا يضيعها من ورث أموالهم، لأنه يفترض أنه ورث عنهم أخلاقهم أيضاً. mohamdalyami@