ابنتي الحبيبة.. أكتب إليك هذه الرسالة من على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، ثاني محيطات العالم، أكتب من الشاطئ الشرقي لمدينة نيويورك، ولا أخفي عليكِ ابنتي الحبيبة، ترددت كثيراً قبل أن أسافر وأتركك، لكن ربما أجد سلوتي في أن أكتب إليكِ، ولا أعلم ابنتي إن كنتِ ستفهمين تلك الرسائل، فما زلتِ حبيبتي في سنين طفولتك، وكم أتمنى أن تستمتعي بها في مناخ من البراءة والنشأة السليمة على الحب والخير والرحمة والمعاني السامية، لكن ربما ستحتفظين بها وتقرأينها على مهل ولو بعد حين. ابنتي الحبيبة.. كنتُ أتمنى أن أقول لك ثقي في كلمة "الحب"، فكلمة "أحبك" كلمة كبيرة الشأن، يخفق لها الفؤاد، ويتغير بها جوهر الإنسان، وحاضره ومستقبله، ولكن الواقع مُر، كلمة أحبك أصبحت أهون على كل لسان من سؤال عابر بين مجهولين في محطة قطار "كم الساعة الآن؟"، أعلم أن كلامي قد يصيبك بالحسرة أو قد تتهمينني بالتشاؤم، لكنها الحقيقة فصدِّقيني، احذري أن تصدِّقي الكلمات في زمنك هذا، فقط صدِّقي الأفعال، صدِّقي السلوك، نعم أقول في زمنك هذا، ففي زمني وزمن آبائي كانت للكلمات قيمة، وكانت للكلمة وزن، أما كلمة أحبك، فكانت ليست كلمة، بل كانت عهداً؛ بل كانت ميثاق قلب، يتردد أمامها رجال وتخونهم شجاعتهم عن قولها، الآن في زمنك حبيبتي أصاب الكلمة الهوان، الآن الكلمة تقال من ثاني محادثة عبر موقع تواصل، أو من ثاني لقاء في فضاء الإنترنت، الآن الكلمة أصبحت تتردد بلا قيمة، ولتكن في تجارب من حولك عظات وعِبرة، كم من فتاة ألقت بمشاعرها في سراب وَهمٍ ليس له أساس! كم من فتاة تغدق بفيض عواطف بريئة وسرعان ما تنكسر ويتحطم فؤادها حين تعلم أن كل ما نسجته في أحلامها لم يكن إلا أماني تتمناها لا تستند لأي واقع أو حقيقة! فاحذري بُنيَّتي جرح الفؤاد، فإنه لا يندمل. ابنتي الحبيبة.. كنت أتمنى أن أقول لكِ ثقي في مشاعرك، واتبعي قلبك، ففطرة الخير غالبة في نفس الإنسان، ولكن الواقع مُر، أي خير وأي فطرة وأي جوهر أتحدث عنه؟! احذري ابنتي فأنتِ أغلى الناس عندي، احذري فالشر للأسف أصبح غالباً، الكذب والتضليل أصبحا مهارة وذكاء، الغدر والخيانة أصبحا فهلوة وجدعنة، ستجدين شاباً يستمتع بالتحكم بكِ، سيقدم لكِ كل المشاعر التي تحتاجينها، وستجدينه يلهو ويستمتع ويشارك رسائلك وخواطر قلبك السليم النقي مع أصدقائه في اللهو والاستمتاع، ولا يفكر إلا في التغلب على حظه العاثر في الحياة بإنجاز وهمي بالانتصار على قلب فتاة هنا تتحقق ذكورته، ولا أقول رجولته، فالرجولة سمات شخصية لا علاقة لها بالجينات، فكم من ذكر وليس رجلاً! ابنتي الحبيبة.. كنت أتمنى أن أقول لكِ ثقي في مجتمعك، واتبعي قِيمَه، فمجتمعك متدين بطبعه، وقيمه الإيمانية راسخة، فالشهامة والنخوة وغيرهما من الطباع أصيلة وراسخة، ولكن الواقع مُر، ففي ساعات الظهيرة، ومنتصف النهار والشارع ممتلئ بالمارة من كل الأعمار، ستجدين السافل والبذيء، ستجدين من يجرح مسامعك بالبذاءات وستجدين آخرين رجالاً ونساء يستمعون فيضحكون ويعتبرونها مزحة لا تستدعي منك لا غضباً ولا انفعالاً، وستجدين آخرين ربما يتحرشون كالحيوانات ويتحركون فرادى أو قطعاناً، ويا ويل مَن تقف وتتحدى قطيعاً من الحيوانات، احذري بنيتي من تلك الغابة التي فُرضت علينا وعليكِ. ابنتي الحبيبة.. كنت أتمنى أن أقول لكِ ثقي في رجال الدين، واتبعي تعاليمهم، فهؤلاء هم أهل العلم والكتاب، ولكن الواقع مُر، ستجدين منهم من يبرر الظلم، ويفسر العدوان، ستجدين منهم من يبرر لزوجك خيانته، ومن يبرر لزوجك أن يضربك، ستجدين منهم من لا يرى فيكِ سوى عار يستحق الإخفاء والستر، وعورة ينبغي أن تتحجب، وجسد ما به غير المفاتن، أما عقلك فلن يحترمه أحد ولن يفكر فيه أحد، ولو تحدثتِ وفكرتِ وطالبتِ بجوهر الإسلام، فاحذري حبيبتي فسرعان ما ستوجه إليكِ اتهامات جاهزة من طعن وتشهير. ابنتي الحبيبة.. أعلم أنه قد يكون أصابك بعض اليأس وتتساءلين: وما الطريق؟ بُنيتي، طريقك هو العلم، والتعلم، والتعليم، فلتخرجي في رحلة للبحث عن كنز المعرفة، رحلة صعبة ليست مفروشة بالورد، لكنها صدِّقيني ممتعة، رحلة قد تكون مُرهقة وقد تتألمين بعض الشيء، لكن صدِّقيني نجاحك يستحق الصبر، رحلة قد تكون مؤلمة بعض الشيء، ولكن صدِّقيني ليس أكثر إيلاماً من هزيمتك أمام نفسك، قد تشعرين باليأس خلالها، لكنه ليس أشد على القلب من الرضا بأن تصبحي تابعة كسيرة لعادات أو عرف أو ظل حائط، قد ينتقدك البعض، وقد تسمعين من هنا وهناك، لكنك خلال هذه الرحلة ستعرفين أن الكنز الحقيقي ليس في نهايتها؛ بل في المعارف والخبرات والأصدقاء، بل في الأعداء الذين قابلتيهم خلالها، وقد تقابلين "الحب" خلالها، وقد لا تقابلينه، لا أستطيع أن أعدِك بهذا، لكنك حينها ستتعلمين القاعدة الذهبية: أنك ستتزوجين من لا تستطيعين العيش من دونه، وليس من تستطيعين العيش معه! ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.